الباب الأول : بحوث تمهيدية

2. كتاب أبي مخنف حول مقتل الحسين (عليه السلام) وحركة المختار

قال فلهاوزن: وأَثْبَتُ حجة … في تاريخ الشيعة طالما اتصل بالكوفة هوابومخنف، والطبري يكاد لا يعتمد على غيره في ذكر اخبارهم وما اطولها (1).

أقول:

الطبري ليس حجة حين يكثر من راوٍ معين في موضوع معين، فلقد اكثَرَ في تاريخه من روايات سيف بن عمر في حروب الردة ومقتل عثمان وحرب الجمل، وتبين لدى التحقيق ان اكثر اخبار سيف في هذه المواضيع اما محرفة اوموضوعة (2).

والباحث في تاريخ الطبري يستطيع ان يكتشف ان الطبري كمؤرخ راعى في تأليفه لتاريخه ان ياتي منسجما مع السياسة العباسية، ولذا نراه يذكر الرواية العباسية الرسمية لقصة وفاة الامام علي الرضا (عليه السلام) وهي: انه اكثر من أكل العنب فمات فجأة (3).

تُعدُّ كتب أبي مخنف لوط بن يحي الازدي (ت ما قبل 170هجرية) في مقتل الحسين(عليه السلام) وحركة التوابين وحركة المختار، من اقدم واشهر المصادر في موضوعه، وقد تبنى روايتها محمد بن سعد في الطبقات الكبرى، والطبري في التاريخ، وابن اعثم في الفتوح، والبلاذري في انساب الاشراف، وروى المسعودي طرفا منها في مروج الذهب، ثم اخذ ابن الاثير في كتابه الكامل، وابن كثير، وابن خلدون، والذهبي، برواية الطبري، لانه اوردها كاملة، وعن هؤلاء اخذ المعنيون بالتاريخ الاسلامي، من القدامى والمعاصرين شيعة كانوا اوسنة.

لم يكن ابومخنف من القائلين بالنص على علي(عليه السلام)، فهوليس شيعيا بالمعنى الخاص للتشيع.

قال ابن أبي الحديد: وأبومخنف من المحدثين وممن يرى صحة الامامة بالاختيار، وليس من الشيعة ولا معدوداً من رجالها (4).

وأكَّد ذلك الشيخ المفيد في كتابه عن حرب الجمل وقد اورد اخبار حرب الجمل عن ابي مخنف والواقدي وغيرهما قال بعدها: فهذه جملة من اخبار البصرة، وسبب فتنتها، ومقالات اصحاب الاراء في حكم الفتنة بها، قد اوردناها على سبيل الاختصار، واثبتنا ما أثبتنا من الاخبار عن رجال العامة دون الخاصة، ولم نثبت في ذلك ما روته كتب الشيعة) (5).

هذا وقد عاصر ابومخنف اربعة من الائمة، وهم السجاد والباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام)، ولم يروِ عن واحد منهم بشكل مباشر، نعم روى عن بعض أصحابهم بعض الروايات.

وقد وثَّقَ ابا مخنف في النقل عددٌ من اعلام الشيعة (6)، الا ان ذلك قابل للمناقشة، ونحن نتئِّد على الاقل، بل نرفض قبول فقرات مبثوثة في رواياته التي ترتبط بسيرة بعض الأئمة (عليهم السلام) أوسيرة شيعتهم في الكوفة أوعلاقة الائمة بهم في الفترة الواقعة من سنة حكم علي (عليه السلام) سنة 35 هجرية وحروبه الى مقتل المختار سنة 67هجرية، وذلك لانها تعطي رؤية تخالف الثابت عن اهل البيت (عليهم السلام) ، اوالثابت من التاريخ عن شيعتهم في الكوفة وعلاقتهم بهم.

من قبيل: ان الحسين (عليه السلام) ندم على اخذ نسائه وبناته معه، وأنه تذكَّر نصيحة ابن عباس يوم العاشر لما ارتفعت اصواتهن يوم العاشر من المحرم عند احتدام القتال وسقوط القتلى (7).

او أن يزيد قال لعلي بن الحسين لما امر بارجاعه والسبايا الى المدينة: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لوأني صاحبه ما سألني خصلة أبدا الا أعطيتها إياه، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت، ولوبهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت (8).

وهناك من الرواة من اسفَّ الى اكثر من هذا كما فعل يزيد بن روح بن زنباغ الجذامي المعاصر لابي مخنف، يروي عن الغاز بن ربيعة الجرشى من حمير قال: والله إنا لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زُحَر بن قيس حتى دخل على يزيد بن معاوية فقال له يزيد: ويلك ما وراءك وما عندك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الامير عبيد الله بن زياد، أوالقتال، فاختاروا القتال على الاستسلام، فَعَدَوْنا عليهم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية حتى إذا اخذت السيوف مأخذها من هام القوم، أخذوا يهربون إلى غير وَزَر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذا كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله يا أمير المؤمنين ما كان إلا جَزْرَ جَزور، أونومةََ قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم... قال: فدمعت عين يزيد وقال: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية أما والله لوأني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين (9).

اوأن شيعة علي في الكوفة امثال سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة وغيرهم كتبوا للحسين بالقدوم ثم خذلوه حتى قُتل، ثم ندموا بعد ذلك ونهضوا للاخذ بثأره.

وغير ذلك.

اقول:

ان الرؤية السلبية عن شيعة الكوفة، رُسمت خطوطها من قبل ابي جعفر المنصور خاصة ضمن مخطط شامل لتطويق الكوفة واهلها وتغيير الرؤية عن تاريخ علي والحسن والحسين (عليهم السلام) نكاية بالحسنيين الثائرين، حيث كان هوى الثوار من الكوفيين مع الحسنيين، وهوى من يرى العلم والحديث مع الامام جعفر الصادق وآبائه الائمة(عليهم السلام). ثم تحرك الاعلام العباسي من خلال روايات الرواة الذين سايروا العباسيين في مخططهم رغبة في دنياهم فوضعوا وحرفوا ما شاؤوا من الروايات.

اما كون هوى الكوفيين مع الحسنيين، فقد قال الطبري: لما ظهر محمد وابراهيم ابنا عبد الله، أرسل أبوجعفر (المنصور) إلى (عمه) عبد الله بن علي، وهومحبوس عنده، ان هذا الرجل قد خرج، فان كان عندك رأي فأشر به علينا، وكان ذا رأى عندهم، فقال: ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثُم (10) على أكبادهم فانهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارُهم، ثم احفُفْها بالمسالح، فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه، أوأتاها من وجه من الوجوه، فاضرب عنقه (11).

واما كونهم في الفقه والحديث والعلم يتبعون للامام جعفر الصادق وآبائه (عليهم السلام) فقد روى القاضي عياض (12) الحوار الذي دار بين ابي جعفر المنصور ومالك بن انس حيث عرض عليه ان يجعله مرجعا فقهيا للدولة انذاك،

قال مالك: قال فقلت له: ولأهل العراق قولاً تعدَّوْا فيه طورَهم.

فقال: أما أهل العراق فلست أقبل منهم صرفاً ولا عدلا، وانما العلم علم أهل المدينة فضع للناس العلم.

وفي رواية فقلت له: ان أهل العراق لا يرضون عِلمَنا. فقال أبوجعفر يضرب عليه عامَّتهم بالسيف، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط (13).

وقد خطب المنصور في الكوفة سنة 144هجرية بعد ان قبض على عبد الله بن الحسن والد محمد وابراهيم قبيل ان ينهضا ويثورا.

قال المسعودي: ولمـّا أخذ المنصور عبد الله بن الحسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته صعد المنبر بالهاشمية، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد (صلى الله عليه وآله) ، ثمَّ قال:

(يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا، وأهل دعوتنا، ولوبايعتم غيرنا لم تبايعوا خيراً منّا. إنَّ ولد أبي طالب تركناهم والذي لا إله إلاَّ هووالخلافة فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير.

فقام فيها علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما أفلح، وحكَّم الحكمين، فاختلفت عليه الأمّة وافترقت الكلمة، ثمَّ وثب عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه.

ثمَّ قام بعدَهُ الحسن بن علي (عليه السلام) ، فوالله ما كان برجل، عرضت عليه الأموال فقبلها، ودسَّ إليه معاوية إنِّي أجعلك ولي عهدي، فخلع نفسه وانسلخ له ممَّا كان فيه، وسلَّمه إليه، وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخرى، فلم يزل كذلك حتّى مات على فراشه.

ثمَّ قام من بعده الحسين بن علي (عليهما السلام) ، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة، أهل الشقاق والنِّفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المِدرة السوء،/وأشار إلى الكوفة/فوالله ما هي لي بحرب فأُحاربها، ولا هي لي بسلم فأُسالمها، فرَّق الله بيني وبينها/فخذلوه وأبرؤوا أنفسهم منه، فأسلموه حتّى قتل.

ثمَّ قام من بعده زيد بن علي، فخدعه أهل الكوفة وغرّوه، فلمَّا أظهروه وأخرجوه أسلموه، وقد كان أبي محمد بن علي ناشده الله في الخروج وقال له: لا تقبل أقاويل أهل الكوفة، فإنّا نجد في علمنا أنَّ بعض أهل بيتنا يصلب بالكناسة، وأخشى أن تكون ذلك المصلوب، وناشده الله بذلك عمّي داود وحذَّره (رحمه الله) غدر أهل الكوفة، فلم يقبل، وتمَّ على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة) (14).

ولما قتل ابراهيم بن عبد الله بن الحسن(عليه السلام)، امر المنصور ان يطاف برأسه بالكوفة سنة 145 هجرية وخطب قائلا:

(يا أهل الكوفة عليكم لعنة الله وعلى بلد انتم فيه...

سبئية (15)،

خشبية (16)،

قائل يقول: جاءت الملائكة،

وقائل يقول: جاء جبريل...،

لَلَعجب لبني أمية وصبرهم عليكم، كيف لم يقتلوا مقاتلتكم ويسبوا ذراريكم، ويخربوا منازلكم.

أما والله يا اهل المَدَرَة الخبيثة لئن بقيتُ لكم لأ ذلنكم) (17).

أقول :

وفي ضوء ذلك كان من الضروري التحقيق في الرواية التاريخية التي ظهرت في هذه الفترة الخطيرة، سواء كانت رواية ابي مخنف او رواية غيره، وتجزئة الرواية الى اجزاء، واستبعاد الجزء الذي يلتقي مع الهدف الاعلامي للعباسيين ان لم يكن لدينا غيرها.

ان كُتّابا وباحثين معاصرين امثال الشيخ محمود شاكر (18) والدكتور احمد شلبي (19) والشيخ الخضري ونظرائهم قد يكونون معذورين حين يعتمدون على رواية أبي مخنف دون ان يحققوا فيها بسبب خلفيتهم العقائدية التي تسوغ لهم قبول ذلك او الانس به، اما ان يعتمد الكاتب الشيعي الامامي (20)على رواية ابي مخنف دون تحقيق اودون تجزئة فليس معذورا (21).

______________________________________

(1) ‏ الخوارج والشيعة يوليوس فلهوزن ترجمه عن الالمانية الدكتور عبد الرحمن بدوي /113ط 3، الكويت 1978.

(2) ‏ انظر كتب العلامة العسكري: خمسون ومأة صحابي مختلق ثلاثة مجلدات، وعبد الله بن سبأ مجدان فانها مكرسة لدراسة اخبار سيف بن عمر وكشف الوضع والتحريف فيها.

(3) ‏ تاريخ الطبري 7/15. علق استاذنا العلامة المحقق السيد مرتضى العسكري حين قرأ هذه الصفحة من الكتاب عند زيارته الى العراق سنة 2003 وكان نازلا عندنا مدة تلك الزيارة: لا يوجد مؤرخ من المتقدمين والمـتأخرين اكثر جناية على الحق والحقيقة عالما عامدا مثل الطبري، فقد قال في ذكر ما جرى بين الصحابي البر ابي ذر والخليفة الداهية معاوية: (...ذكروا امورا كثيرة كرهت ذكر اكثرها اما العاذرون معاوية فقد ذكروا قصة رواها. ..) وقال في ذكر ما جرى بين معاوية ومحمد بن ابي بكر. .. (لاتتحمل سماعها العامة)، اقول: فصلنا الحديث عن منهج الطبري في كتابنا المدخل الى دراسة مصادر السيرة والتاريخ.

(4) ‏ شرح نهج البلاغة 1/147.

(5) ‏ الجمل ص 225.

(6) ‏ انظر معجم رجال الحديث وقاموس الرجال.

(7) ‏ قال أبومخنف: حدثني عبد الله بن عاصم قال حدثني الضحاك المشرقي قال: لما سمع أخوات الحسين كلام الحسين يخاطب القوم يوم العاشر صحن وبكين وبكى بناته، فارتفعت أصواتهن، فأرسل اليهن أخاه العباس بن علي وعليا ابنه، وقال لهما: أسكتاهن فلعمري ليكثرن بكاؤهن، قال: فلما ذهبا ليسكتاهن، قال: لا يبعد ابن عباس، قال: فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهن لانه قد كان نهاه أن يخرج بهن.(الطبري 4/321)وقال أبومخنف: وحدثني الحارث بن كعب الوالبي عن عقبة بن سمعان: أن حسينا لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس وقال له: فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه (الطبري 4/287).

(8) ‏ تاريخ الطبري - الطبري ج 4 ص 353.

(9) ‏ تاريخ الطبري - الطبري ج 4 ص 351.

(10) ‏ جثُم يجثُم: لصق ولزم.

(11) ‏ تاريخ الطبري ج 6/194.

(12) ‏ انظر تفصيل ذلك في كتابنا المدخل الى مصادر السيرة والتاريخ ص 470.

(13) ‏ وكان المنصور قبل ذلك قد قال لابي حنيفة: يا أبا حنيفة، ان الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيء له من مسائلك الصعاب (الكامل في الضعفاء لابن عدي 2/132).

(14) ‏ المسعودي: مروج الذهب ج3/301، وكانت بوادر التحسس من الكوفيين قبل ذلك، روى البلاذري في انساب الاشراف 3/150، قال: قال المدائني: (كتب ابومسلم الى ابي العباس: أن اهل الكوفة قد شاركوا شيعة امير المؤمنين في الاسم، وخالفوهم في الفعل، ورأيهم في آل علي الذي يعلمه امير المؤمنين، يؤتى فسادهم من قبلهم باغوائهم اياهم واطماعهم فيما ليس لهم، فالحظهم يا امير المؤمنين بلحظة بوار، ولا تؤهلهم لجوارك، فليست دارهم لك بدار. واشار عليه ايضا عبد الله بن علي بنحو من ذلك، فابتنى مدينته بالانبار وتحول اليها وبها توفي).

(15) ‏ اي اتباع عبد الله بن سبأ الذي ادعي له انه مبتدع الوصية لعلي (عليه السلام) المشابهة لوصية موسى ليوشع (عليه السلام) الذي يترتب عليها البراءة ممن تجاوز على موقعه.

(16) ‏ في " النهاية " لابن الاثير: الخشبية: هم أصحاب المختار بن أبي عبيد، ويقال لضرب من الشيعة: الخشبية. وفي " المشتبه " للذهبي: الخشبي هو الرافضي في عرف السلف. اقول وسياتي في ترجمة المختار الروايات التي وضعوها في حقه للغض من شخصيته.

(17) ‏ انساب الاشراف 3/269.

(18) ‏ كاتب مصري الف موسوعة في التاريخ الاسلامي في عدة مجلدات.

(19) ‏ كاتب مصري الف موسوعة التاريخ الاسلامي في عدة مجلدات وطبعت طبعات عديدة اخر ما رايته هوالطبعة السابعة سنة 1984م وعنها ننقل في كتابنا هذا.

(20) ‏ قد يعترض البعض علينا باعتماد مرجع الشيعة في وقته الشيخ المفيد رحمه الله على رواية ابي مخنف في كتابه الارشاد، اوفي كتابه الجمل، ولكنه اعتراض غير وارد لان الشيخ المفيد في الجمل يصرح انه انما اورد اخبار الجمل من مصادر غير امامية لاجل الاحتجاج.

(21) ‏ اشرنا الى طرف من هذا الموضوع في كتابنا المدخل الى دراسة مصادر السيرة النبوية، /469- 480، نرجوان نوفق الى تفصيلها في دراسة مستقلة.

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري