المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الثاني : منهج البحث في مصادر التاريخ
الفصل الثاني : المصادر الإسلامية للسيرة والتاريخ ومنهج البحث فيها

ضياع كثير من الكتب (الأصول)

وممَّا يؤسف له أنَّ كثيراً من أسماء (الأصول) المذكورة في فهرست ابن النديم أو فهرست النجاشي والطوسي قد فقدت والسبب في ذلك بشكل عام يرجع إلى ظهور الجوامع والموسوعات نفسها وعناية أهل العلم والمعرفة بنسخها دون نسخ الأصول .

وإلى جانب ذلك هناك سبب خاص أدَّى إلى فقدان وضياع الأصول التي أُلفت من قبل علماء الشيعة الأوائل في السيرة والتاريخ مع عدم ظهور جوامع وموسوعات أخذت عنها وهذا السبب الخاص يشرحه العلامة العسكري بقوله :

دوَّن أصحاب أئمة أهل البيت مؤلفات متنوعة في مختلف العلوم ، منها ما سُمِّي بالأصول (والأصل هو الكتاب الذي جمع فيه مصنِّفه الأحاديث التي رواها عن المعصوم ، أو عن الراوي عنه)  (1) ، ولا تكون أحاديثه منقولة عن كتاب آخر .

وقد بلغ عدد الأصول أربعمائة أصل أو أكثر ، ووصلت تلك الأصول يداً بيد إلى علمائنا في القرن الرابع الهجري ، ونقل منها الكليني في موسوعته الحديثية المسمَّاة الكافي .

وجمع ما كان منها في الأحكام ، الصدوق في كتاب (من لا يحضره الفقيه) .

والشيخ الطوسي في كلّ من كتابيه : الإستبصار في ما اختلف من الأخبار ، وتهذيب الأحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد المتوفي (413هـ) .

كما أخذ منها ابن بابوية المتوفي (329هـ) وابنه الصدوق وغيرهما مواد كتبهم الحديثية (وصنَّف ابن بابوية مئتي كتاب الفهرست لابن النديم 277 ، والصدوق ثلاثمائة مصنَّف معاني الأخبار 72) وبقيت المجاميع الحديثية الأربعة السابقة الذكر مرجعاً للعلماء حتَّى اليوم .

وبقي من عصرهم : أيضاً الكتب الرجالية الأربع : اختيار رجال الكشي للشيخ الطوسي ، ورجال الشيخ الطوسي وفهرسته ، وفهرست النجاشي .

وكان لأصحاب الأئمة عدا ماذكرنا من الأصول الأربعمائة آلاف من الكتب في مختلف العلوم .

وقد ألَّفوا في أخبار الأوائل ، كأخبار ولد آدم ، وأصحاب الكهف وتفرُّق عاد .

وفي أخبار الجاهلية مثل كتاب الخيل والسيوف والأصنام وأيَّام العرب وأنسابهاونواقل القبائل  (2) ومنافراتها .

وفي أخبار البلدان وأسماء الأرضين والجبال والمياه .

وفي أخبار ما قارب الإسلام كأخبار الأحلاف ومناكح العرب ... الخ .

وأخبار الإسلام كيوم السقيفة والردَّة والجمل وصفين ووقعة الطَّف والمختار والتوابين وماقبلها وما بعدها .

آلاف من الكتب في هذه الأخبار وأمثالها وفي أنواع أخرى من العلوم من أصحاب الأئمة ذهبت مع الأيَّام ، وأصبحنا لا نجد غير أسمائها وأسماء مؤلفيها في كتب الفهارس كفهرست ابن النديم والنجاشي والشيخ الطوسي والذريعة .

وكان سبب هذا الضياع أمران :

الأمر الأوّل : إرهاب الحكم ومن سار في ركابهم مدى العصور لأتباع مدرسة أئمة أهل البيت عليهم السلام - علماء الشيعة إلى حدِّ قتل النفوس وإحراق المكتبات بما فيها من آلاف الكتب مثل خزانة كتب (بين السورين) ببغداد ، قال الحموي : (لم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها كانت كلَّها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحرَّرة واحترقت في ما أُحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك أول ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة 447هـ)  (3) .

ذهبت من كتب الشيعة في أمثال هذه الفتن ما لا يحصيها إلاَّ الله .

والأمر الثاني : إنصراف علماء الشيعة في جانب التخصص العلمي إلى تحصيل العلوم الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، ومن ثمَّ عُنُوا بتدارس آيات الأحكام ، وروايات الأحكام دراسة مستوعبة جيلاً بعد جيل حتَّى عصرنا الحاضر ، إلى حدّ يصح معه الاطمنان عند الباحث المتتبع أنَّ الأحكام الإسلامية مع كلِّ تلك العناية الشديدة على مرِّ العصور في المحافظة عليها وتدارس رواياتها وصلت إلينا سليمة في هذا العصر .

وفي مقابل هذه العناية الشديدة بروايات الأحكام ورواتها وكتبها جيلاً بعد جيل ، نجد تقصيراً معيباً في تدارس روايات السيرة والتاريخ والتفسير والآداب الإسلامية ، وغيرها من صنوف العلوم الإسلامية . وكان نتيجة ذلك :

أوّلاً : ضياع مصادر الدراسات الإسلامية من مصنَّفات أصحاب أئمة أهل البيت كما ذكرناه .

ثانياً : تسامح علماء الشيعة لدى رجوعهم إلى روايات التواريخ والسِّيَر والتفسير ومعرفة البلاد وفنون أخرى ، واعتمادهم أحياناًـ على كتب مثل تاريخ الطبري وروايات كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ونضائرهما في التفسير .

ومتابعة أهل كتب الملل والنحل في رجوعهم إلى ما يتقوَّله الناس في ما لقوا في هذا الباب !

وهكذا تسرَّبت بعض أخبار الزنادقة المنتشرة في أمثال تاريخ الطبري إلى كتب تاريخهم  (4) وتسرَّبت بعض الإسرائيليات (وبعض أخبار العامَّة) عن طريق بعض التفاسير التي أخذت من كعب الأحبار ونظائره إلى تفاسيرهم  (5) . وتسرَّبت أساطير الخرافة إلى تأليفهم في الملل والنحل  (6) . مُنوا بكلِّ ذلك بسبب تسامحهم في مايرجعون إليه من أخبار هذه العلوم خلاف دأبهم في مايرجعون إليه من روايات الأحكام لشِدَّة تثبتهم وفحصهم صحيحها من سقيمها ، وتدارس مايعمل لدى تعارض بعضها مع بعض ، أو مع آي من القرآنوتوضيحهم قواعد العمل في عامِّها وخاصِّها ، ومجملها ومبيِّنها إلى غير ذلك من بحوث واسعة في هذا الفن . انتهى كلام العلامة العسكري  (7) .

______________________

(1) آقا بزرگ الطهراني : الذريعة 2/126 و الوحيد البهبهاني ت1205 هـ : التعريف  .

(2) النواقل : هي الجماعة التي تنقل من قبيلة عربية إلى أخرى وتلتحق بالثانية وتنسب إليها وقد كتب فيهم علماء الأنساب وأحصوهم في كتب سميت باسم النواقل .

(3) ياقوت الحموي : معجم البلدان لفظة بين السورين .

(4) نقل الشيخ المفيد في كتابه : (الجمل) ص 47 عن كتاب أبي مخنف في حرب البصرة أنَّه روى عن سيف بن عمر قال : (بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيَّام وأميرها الغافقي يلتمسون من يجيبهم ...)
والرواية بسندها ومتنها نقلها الطبري في تاريخه (1/3073) وقال العلامة العسكري في بعض دروسه : إنَّ نقل الشيخ المفيد في هذا المورد عن سيف كان بقصد المناظرة والمحاججة مع من يرى حجية روايات سيف من إنَّ عليّاً عليه السلام لم يكره أحداً على البيعة . وقد درس العلامة العسكري روايات سيف بن عمر في قصة الغافقي وخلاصة دراسته أنَّ الغافقي المذكور من مختلقات سيف وأنَّ المدينة بعد قتل عثمان لم يحكمها ولا ساعة من نهار غير الإمام علي عليه السلام وأنَّ المهاجرين والأنصار بايعوا عليّاً عليه السلام في اليوم الذي قتل فيه عثمان .

(5) قال العلامة العسكري في بعض دروسه : إنَّ الشيخ الطوسي (رض) أورد في كتابه (التبيان) الأسطورة التي روتها أُمّ المؤمنين عائشة في قصة الإفك كتفسير لآيات الأفك (سورة النور 11ـ18) وإنَّ المرأة التي رماها المنافقون بالإفك هي عائشة وإنَّ الله تعالى برَّأها من ذلك وعن طريق التبيان انتقلت إلى مجمع البيان للطبرسي وروض الجنان تأليف أبي الفتوح الرازي الشيعي وعنه أخذ كازر وأوردها في تفسيره .

(6) يريد العلامة العسكري ماورد في كتاب فرق الشيعة للنوبختي وكتاب المقالات والفرق للأشعري من خبر عبد الله بن سبأ وإنَّه أوّل من شهر القول بالوصية بعلي وأظهر الطعن في الخلفاء قبل علي عليه السلام .

(7) العلامة العسكري : عبد الله بن سبأ ج 2/200 - 204 .

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري