فتح مكة

كان فتح مكة في شهر رمضان ، وذلك أنَّ رسول صلى الله عليه وآله لما صالح قريشاً عام الحديبية دخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وآله وعهده ، ودخلت كنانة في حلف قريش ، فلما مضت سنتان من القضيّة ، قَعَدَ رجل من كنانة يروي هجاء رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له رجل من خزاعة : لا تذكر هذا . قال : وما أنت وذاك ؟ فقال : لئن أعدت لأكسرن ، فأعادها ، فرفع الخزاعي يده فضربه بها ، فاستنصر الكناني قومه والخزاعي قومه (1) . وأعانت قريش كنانة فأرسلوا مواليهم فوثبوا على خزاعة فقتلوا فيهم ، فجاءت خزاعة رسول الله صلى الله عليه وآله فشكوا إليه ذلك ، فأحلَّ الله لنبيِّه قطع المدة التي بينه وبينهم وعزَم على غزو مكة (2) .

وقال صلى الله عليه وآله : (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها (3) في بلادها) فتجهز الناس فكتب حاطب بن أبي بَلْتَعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بذلك ثم أعطاه امرأة وجعل لها جُعلاً (4) على أن تبلغه قريشاً فجعلته في قرون رأسها ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله الخبر من السماء بما صنع حاطب (5) .

قال علي عليه السلام : بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله والزبير بن العوام وأبا مرثد ، فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (6) فإنَّ بها ظَعينة (7) معها كتاب فخذوه منها ، قال علي عليه السلام : فأدركناها حيث قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله تسير على بعير لها ، فقلنا : أيْن الكتاب الذي معك ؟ قالت ما معي من كتاب فأَنَخْنا (8) بعيرها ، فابتغينا في رَحِلِها (9) فما وجدنا شيئاً ، فقال صاحباي : ما نرى معها كتاباً ، فقال علي عليه السلام : إنّي أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وآله ولا كذبنا ولَتُخْرِجِنَّ هذا الكتاب أو لأجردنَّكِ ، فلما رأت الجِدَّ منه قالت : أعرِض ، فأعرَض فحلَّت قرونَ رأسها فاستخرجت الكتاب فدفعته إليه فأُتِيَ به رسول الله صلى الله عليه وآله (10) ، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله حاطباً فقال : له ما حَمَلَكَ على هذا ؟ فقال : والله يا رسول الله إنّي لمؤمن بالله ورسوله ما غَيَّرت ولا بدَّلت ولكنّي ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة ولي بين أظهرهم ولد وأهل فاردت أن أتخذ عندهم يداً ليحفظوني فيهم . فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المُنافق (11) ، فقال : لهم رسول الله صلى الله عليه وآله أخرجوه من المسجد ، فجعل الناس يدفعون في ظهره وهو يلتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليرأف عليه فأمر برده وقال : قد عفوت عن جُرمِك فاستغفر ربك ولا تعد لمثل ما جنيت فأنزل الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)الممتحنة/1 إلى آخر الآيات من صدر السورة (12) .

وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الجمعة حين صلى العصر لليلتين خلتا من شهر رمضان وقيل لعشر مضين وكان رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمون صائمين حتى إذا كانوا بالكَدِيد (13) أفطر وأمر الناس فأفطروا ، وبلغه أنَّ قوماً لم يُفطِروا ، فقال : أولئك العُصاة (14) .

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وآله ولقيه العباس بن عبد المطلب بذي الحُليفة (15) مهاجراً ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله أن يرسل رحله إلى المدينة ويعود معهوقدم رسول الله صلى الله عليه وآله ناحية مَرِّ الظَّهران (16) في عشرة آلاف فارس من بني غِفار أربعمائة ومن مُزَينة ألف وثلاثة نفر ومن بني سُليم سبعمائة ومن جهنية ألف وأربعمائة وسائرهم من المهاجرين والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب ثم من تميم وأسد وقيس (17) .

ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله مكة ودخل أصحابه من أربعة مواضع وأحلها الله له ساعة من نهار .

ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله مكة كانت عليه عِمَّة سوداء ، فوقف على باب الكعبة ، وقال : لا إله إلاّ الله وحده وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده .

ثم قال : يا معشر قريش ما ترون أنّي فاعل بكم ؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، فعفا عنهم فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء (18) .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ألا وإنَّ مكة مُحَرَّمَة بحرمة الله لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد من بعدي ، وإنما حلت لي ساعة ثم أُغلِقت فهي محرمة إلى يوم القيامة لا يُخْتَلى خَلاها (19) ولا يُعْتَضَد (20) شجرها ولا يُنْفَرُ صيدها ...

وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بالأصنام فهُدِّمت وبالصور التي كانت في الكعبة فمُحِيَت ، ثم أمر بِلالاً حين جاء الظُّهر أن يصعد الكعبة فأذَّن فَعَظُم ذلك على قريش .

وأمر النبي صلى الله عليه وآله بقتل خمسة نفر ولو كانوا معلَّقين بأستار الكعبة وهم عبد الله بن عبد العُزّى بن خطل ، والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قُصىّ ، والمقيس بن صبابة ، وعِكرِمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن أبي سرح ، أمّا الثلاثة الأُوَل فقُتَلوا ، وأما عِكرمة ففر الى اليمن ثم عاد فأسلم .

أما عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح فقد كان أسلم قبل ذلك وهاجر ثم ارتد مشركاً (وكان يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ) . فآواه عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة ، فأتى به فاستأمَن له رسول الله صلى الله عليه وآله فسكت عنه رسول الله ساعة ثم أمَّنه وبايعه فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه : هلا قام بعضكم إلى هذا الكلب قبل أن أؤمِّنه فيقتله ، قالوا : انتظرنا أن تُومي ، فقال صلى الله عليه وآله : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين وإني ما أقتل بالإشارة (21) .

وكانت أمُّ هاني بنت أبي طالب تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي فدخل عليها حَمَوانِ (22) لها يستجيران بها فأجارتهما (23) . وبلغ علياً عليه السلام ذلك ، فقصد نحو دارها مقنَّعاً بالحديد فقال : أخرِجوا من آويتم ، فجعلوا يذرُقون كما تذرُق الحُبارى (24)خوفاً منه ، فخرجت إليه أمُّ هاني وهي لا تعرفه فقالت : يا عبد الله أنا أمُّ هاني إبنة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأخت علي بن أبي طالب انصرف عن داري ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أخرجوهم ؟ فقالت : والله لأشكونَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فنزع المِغْفَر عن رأسه فعرفته ، فجاءت تشتد حتى التزمته وقالت : فديتك حلفت لأشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال لها : اذهبي فابري قسمك إنه بأعلى الوادي .

قالت أمُّ هاني : فجئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وهو في قُبَّة يغتسل وفاطمة عليها السلام تستره فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله كلامي ، قال : مرحباً بأم هاني وأهلاً ، قلت : بأبي أنت وأمّي أشكو إليك اليوم ما لقيت من علي بن أبي طالب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : قد أجرت من أجرت . فقالت فاطمة عليها السلام ، إنما جئت يا أمَّ هاني تشكين علياً في أنّه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لقد شكر الله تعالى لعلي سعيه . وأجرتُ من أجارت أمّ هاني لمكانها من علي بن أبي طالب (25) .

وأمر النبي صلى الله عليه وآله بقتل وحشي قاتل حمزة ، فهرب إلى الطائف ثم قدم في وفدها على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : أوحشىّ ؟ قال : نعم ، قال : أخبرني كيف قتلت حمزة ؟ فأخبره . فقال : غيِّب عنّي وجهك ، وشرب الخمر بعد إسلامه فكان أول من ضُرب في الخمر وأول من لبس المُعَصْفَر المصقول (26) بالشام (27) .

______________________

(1) إعلام الورى ج1 ص112 ، الكامل لابن الاثير ج2 ص239 .

(2) تاريخ اليعقوبي ج2 ص58 .

(3) اي نفاجئها .

(4) اي ما يجعل على العمل من الاجرة والجزاء.

(5) عيون الاثر ج2 ص167 .

(6) هي بين مكة والمدينة والى المدينة اقرب .

(7) المرأة لانها تقيم اذا قام الرجل وتظعن اذا ظعن .

(8) اي ابركه .

(9) الرحل : شيء يوضع على البعير ليركب عليه الراكب ويضع فيه امتعته .

(10) صحيح البخاري ج7 ص134 ط. دار الفكر بيروت عن طبعة اسطانبول 1401.

(11) صحيح البخاري 3 : 59 غزوة الفتح .

(12) إعلام الورى : 113 ، البخاري ، كتاب التفسير سورة الممتحنة ، عيون الاثر .

(13) موضع بالحجاز على بعد اثنين واربعين ميلا من مكة بين عسفان وأمج (مراصد الاطلاع) .

(14) تاريخ اليعقوبي ص58 ، امتاع الاسماع ص365 ، صحيح مسلم ج1 حديث 784 كتاب الاصنام .

(15) قرية بينها وبين المدينة ستة اميال او سبعة منها ميقات اهل المدينة.

(16) موضع على مقربة من مكة.

(17) تاريخ ابن الاثير .

(18) المصدر السابق .

(19) اي لايقطع حشيشها والخلى الحشيش .

(20) اي لا يقتطع .

(21) انظر تاريخ اليعقوبي ج2 ص59 ، الدرر لابن عبد البر ج1 ص321 ، تاريخ ابن الاثير ، أنساب الأشراف للبلاذري .

(22) مثنى حمو وهو اخو الزوج .

(23) المصدر السابق .

(24) طائر نوع الطيور .

(25) الارشاد للمفيد ج1 : 137 .

(26) المعصفر من الثياب : هو المصبوغ بالعصفر .

(27) أنساب الأشراف 1 : 363 .