الصفحة الأساسية

الحلقة الثانية - صفحة 31

من له حق الحكم عند أهل البيت (ع) :

أما ما يتعلق بمسالة الحكم فان القانون الإسلامي قد أوجب على المسلمين إقامته إلى آخر الدنيا ، ومن الطبيعي جداً ان لا يحدد عدد الحكام بعدد معين ، وإنما الطبيعي هو ان تحدد مواصفات من له أهلية لإشغال هذا المنصب في المجتمع ، وقد حدد القانون الإلهي ذلك صريحا في قوله تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) المائدة / 44 .

والنظرية التي تطرحها الاَّية من وجود ثلاثة طبقات من العلماء بالكتاب الإلهي يبينون أحكامه وينفذونها في المجتمع ، وهم النبيون ثم الربانيون ثم الأحبار ، ليست خاصة بالتوراة بل تشمل كل كتاب إلهي تضمَّن الشريعة .

والمراد بالأحبار هم الفقهاء رواة أحاديث الأوصياء .

وفي ضوء الاَّية الكريمة يكون الذي له حق الحكم في المجتمع هو النبي ومن بعده الوصي ومن بعده الفقيه العادل الكفوء .

وقد وردت النصوص في القرآن والسنة تشير إلى وجود منزلة الربانيين والأحبار في أمة محمد (ص) .


صفحة 32

روى المحدِّث البحراني في تفسيره البرهان عن العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبى عبد الله (ع) قوله :

“ ان مما استحقت به الإمامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبِقة التي توجب النار ، ثم العلم المكنون بجميع ما تحتاج إليه الأمة حلالها وحرامها والعلم بكتابها خاصه وعامه والمحكم والمتشابه ودقائق علمه وغرائب تأويله وناسخه ومنسوخه .

قلت : وما الحجة بأن الإمام لا يكون إلا عالما بهذه الأشياء التي ذكرت ؟

قال : قول الله فيمن أذن لهم بالحكومة وجعلهم أهلها (انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون) فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يؤتون الناس بعلمهم (1) .

وأما (الأحبار) فهم العلماء دون الربانيين .

ثم اخبرنا فقال : (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) ولم يقل بما حملوا منه ” (2) .


(1) وفي نسخة (يربون الناس بعلمهم) والظاهر ان الصحيح هو(يؤُمُّون الناس) .

(2) تفسير البرهان تفسير الاَّية .


صفحة 33

شرح الرواية :

قوله (ع) : (ان مما استحقت به الإمامة التطهير  ثم العلم المكنون ) .

العلم المكنون هو : العلم المخزون المصون عن الاختلاف ، نظير قوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ) الواقعة77ـ78 .

ومراده (ع) ان الإمامة الإلهية الخاصة تتقوم بأمرين :

الأول: الطهارة من الذنوب صغيرها وكبيرها .

الثاني: العلم بكل ما تحتاج إليه الأمة علما مصونا عن الخطأ والاختلاف .

وكلاهما فضل من الله يمنحه من يشاء من عباده .

قوله (ع) : (قول الله فيمن أذن الله لهم بالحكومة وجعلهم أهلها) .

يشير الى ان الذين أذن الله لهم بالحكومة هم ثلاث فئات :

الفئة الأولى : النبيون .

الفئة الثانية : الربانيون .


صفحة 34

الفئة الثالثة : الأحبار (1) .

قوله (ع) : (فهذه الأئمة دون الأنبياء) .

يشير إلى ان الربانيين في الاَّية هم الأئمة الإلهيون ، وهم العلماء أصحاب العلم المصون عن الخطأ المطهرون عن الذنوب (2) المنصوص عليهم الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا


(1) انظر تفصيل الاستدلال على ان الربانيين في الاية هم الائمة (ع) في تفسير الاَّية عند العلامة الطباطبائي (رح) . رجوع

(2) ومن الجدير ذكره هنا هو ان الوصي فضلا عن الفقيه في عصر النبي (ص)) ليس له ان يمارس الحكم إلا بإذن النبي (ص) ، وكذلك الأمر مع الفقهاء في زمن حضور الأوصياء ، أما زمان الغيبة الكبرى فقد أذن الأوصياء لفقهاء شيعتهم خاصة ان يمارسوا الحكم وأوجبوا على شيعتهم الرجوع إليهم والرضا بهم دون غيرهم وقد استدل الفقهاء على هذا الإذن بقول الإمام الصادق (ع) (اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضيا وإياكم ان يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر (التهذيب للطوسي ج6 / 303) وقوله (ع) من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما) (الكافي ج7 / 412 ، من لا يحضره الفقيه ج3/5 ، التهذيب ج1 / 301 ، وسائل الشيعة 18/98 ، والتوقيع الصادر عن الحجة بن الحسن العسكري (ع) (اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) إكمال الدين للصدوق ص483 .


صفحة 35

مُوسَى الكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة23ـ24 .

ان الأئمة من بني إسرائيل من بعد موسى المشار اليهم فى الاَّية على قسمين :

الأول: أنبياء ورسل كداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى .

الثاني: غير أنبياء ولكنهم علماء معصومون منصوص عليهم وهم آل هارون وطالوت (1) وصاحب سليمان (2) وغيرهم وهؤلاء هم الربانيون المشار إليهم في الاَّية 44 من سورة المائدة موضوع البحث ولهم نظائر في هذه الامة .


(1) قال تعالى : (وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَ بَقِيًّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَ آلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الَمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَّيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) البقرة :248 .

(2) قال تعالى : (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقُوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ) النمل :38ـ40 .


صفحة 36

وقد قال الامام الباقر (ع) في تفسيرها :“ انها فينا نزلت ” (1) ، ومراده (ع) انها نزلت لبيان مقامهم بواسطة ذكر نظائرهم في الامم السابقة .

وتفسير الإمام الباقر (ع) هذا من باب البطن .

وقد وضَّح الامام الباقر معنى (البطن) حين سأله الفضيل بن يسار عن الرواية التي تقول (مافي القرآن آية الا ولها ظهر وبطن) ما يعني بقوله لها ظهر وبطن قال :“ ظهره تنزيله وبطنه تأويله ”.

وفي رواية مهران عن ابي جعفر (ع) إيضا قال : “ ظهر القرآن الذين نزل فيهم وبطنه الذين عملوا مثل اعمالهم ” (2) .

قوله (ع) : “ ثم اخبر فقال (بما استحفظوا من كتاب الله ..) ولم يقل بما حملوا منه ”

إشارة منه (ع) إلى ان (الإستحفاظ) لا يراد به مجرد حمل العلم فقط ، بل يراد به (حمل العلم وعدم تضييعه عمليا) وهذا المعنى صادق دائما مع النبيين والربانيين ، أما مع غيرهم فقد يتخلف فيكون عالما بحدود الله ومضيعا لها عمليا .


(1) تفسير العياشي ج1 : تفسير الاَّية 44 من سورة المائدة .

(2) البرهان ج1 : 20 .

 الصفحة الأساسية