المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الثالث : تعريف بالموسوعات التاريخية وأصولها ومصنفيها
الفصل الثاني: تراجم أصحاب الموسوعات التاريخية التي اعتمد عليها ابن أبي الحديد

أحمد بن يحيى البلاذري (ت279هـ)

قال ابن حجر في لسان الميزان : البلاذري صاحب التصانيف ، سمع من ابن سعد والدولابي وعفان وشيبان بن فروخ وابن المديني وعنه محمد بن خلف ووكيع القاضي ويعقوب بن نعيم وأحمد بن عمّار ويحيى بن النديم وغيره .

قال ابن عساكر : بلغني أنَّه كان أديباً راويةً ، وأنَّه مدح المأمون ، وجالس المتوكِّل ، وتوفي في أيّام المعتمد ، وشوَّش في آخر أيّامه فشُدَّ في المارستان ومات فيه . وكان سبب ذلك أنَّه شرب البلاذُر على غير معرفة فلحقه ما لحقه ولهذا قيل له البلاذري  (1) قال : وكان شاعراً ، وله أهاج كثيرة ، وكان ينقل من الفارسي إلى العربي .

قال ياقوت في معجم الأدباء : ذكره الصوّاف في ندماء المتوكِّل ، وكان جدُّه جابر يخدم الخصيب أمير مصر ، وكان عالماً فاضلاً نسّابةً متقِناً عاش إلى آخر أيّام المعتمد ولا يبعد أن يكون عاش إلى أوّل أيّام المعتضد  (2) .

قال الدكتور محمد حميد الله : والشريف المرتضى وقد ألف بعد البلاذري بحوالي قرن يذكر في كتابه الشافي ص207 : ... أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري وحاله في الثقة عند العامة والبعد عن مقارنة الشيعة والضبط لما يرويه معروف . وفي ص246 قال : وقد روى البلاذري في تاريخه ، وهو معروف الثقة والضبط ، وبريء من ممالأة الشيعة ومقارنتها ...

قال الدكتور شاكر مصطفى : البلاذري أحمد بن يحيى بن جابر (توفي سنة 279هـ/892م) هو من رجال البلاط العباسي منذ عهد المتوكِّل حتّى المعتز  (3) وقد عُيِّن مربيّاً لابنه عبد الله . وكان أحد النقلة من اللسان الفارسي إلى العربية . ومصادر معلوماته تعتمد شيوخه الأربعة في بغداد : ابن أبي شيبة ، والقاسم بن سلام (ت224) ، وعلي بن محمد المدائني (ت225) ، ومحمد بن سعد الواقدي (ت230) ، ولكنَّه أغنى معارفه غنى كبيراً بالرحلة . فقد زار مدن الشام  (4) والحجاز وإيران بحثاً وراء المعرفة بل زار مواقع الأحداث التاريخية بنفسه .

وقد كتب البلاذري عدداً من الكتب ، منها كتاب البلدان الصغير وكتاب البلدان الكبير (ولم يتمه) وكتاب عهد أرشير لكن كتبه التي صنعت مجده هي : كتاب فتوح البلدان وخاصّة أنساب الأشراف .

و(فتوح البلدان)  (5) سجل شامل للفتوح الإسلامية وهو معروف بهذا الاسم ولو أنَّه في المخطوطات يحمل اسم (أمور البلدان) وقد فصَّل فيه البلاذري فتوح كلِّ بلد وكلِّ ما يتعلَّق به نقلاً عن أهل البلد أنفسهم وكتبهم . وأهمية الكتاب تظهر فيما أورد من معلومات ثقافية واقتصادية وإدارية ، فقد فصَّل في منازل السلطان والقبائل العربية بعد الفتح .

أمَّا كتابه الثاني (أنساب الأشراف) فهو موسوعة ضخمة ، جاءت رواياته في إطار الأنساب ، توسَّعت حتى احتوت الأخبار والشعر والتراجم . ومصادر البلاذري في أنساب الأشراف تعتمد على المؤلفات المكتوبة وعلى الرواية الشفهية . فهو يوائم بين المصدرين حسب الحاجة ، لكن منهجه في كلِّ الأحوال هو أن يختار الروايات التي يعتمدها أو ينقدها أحياناً مع ذكر الأسانيد . ويكتب أحياناً (قالوا) ويعني ذلك أنَّ نوعاً من الأجماع قد تمَّ حول قول بعض الروايات والرواة  (6) ، ثمَّ يتممها بالروايات الأخرى . فأخباره عن (الشورى) تعتمد الواقدي والزهري (أي روايات المدينة) ثمَّ يضيف إليها روايات أبي مخنف ... وواقعة الحرَّة عنده يرويها بصورة أساسية عن المدائني والواقدي وعوانة وأشياخ المدينة ويجمع ، فيها بين الروايات المدنيّة والأمويّة . أمَّا الأنساب فيأخذها عن الزبير بن بكار ، وأخباره عن عبد الملك بن مروان تستند إلى عوانة بن الحكم مباشرة أو بواسطة المدائني والواقدي فهي شامية مدنية ولكنَّه يضيف إليها الروايات العراقية)  (7) .

أقول : احتوى أنساب الأشراف للبلاذري على ترجمة مفصلة للنبي صلى الله عليه وآله وغزواته وزوجاته والمستهزئين به من قريش والمستضعفين من أصحابه وقصة السقيفة وطرف من تراجم آبائه صلى الله عليه وآله (ج1-2) ، ثم ترجمة الطالبيين بدءا بأبي طالب وولده وذرياتهم مع عناية خاصة بترجمة علي والحسن والحسين عليهم السلام مفصلة وطرف من تراجم ذرياتهم (ج2-ج3) ثم تراجم مفصلة لبني العباس الى خلافة المهدي العباسي (ج 4) ولبني أمية وما جرى زمانهم من حركة عبد الزبير والمختار والخوارج (ج 5-ج9) وبقية قبائل قريش وغيرها (ج9-ج13)  (8) .

رواياته عند ابن أبي الحديد :

تكاد تنحصر استفادة ابن أبي الحديد من البلاذري في حقل سيرة النبي صلى الله عليه وآله ومغازيه إلاَّ رواية تتعلَّق بسيرة عمر بن الخطاب وموارده لدى ابن أبي الحديد كما يلي :

ج2/246 كلام ابن عباس في أمر التحكيم ، كلام ابن عباس مع عمرو بن العاص .

ج14/84 قال ابن أبي الحديد في قصة بدر : نحن نذكر ذلك من كتاب المغازي للواقدي ونذكر ما عساه زاده محمد بن إسحاق وما زاده البلاذري في تاريخ الأشراف . إختار البلاذري رواية الواقدي التي تقول : إنَّ حمزة قتل عتبة وإنَّ علياً قتل الوليد وشرك في قتل شيبة ...

187 قول أسامة في سهيل بن عمرو : يارسول الله هذا الذي كان يطعم الناس بمكة الثريد ...

194 -195 قصة هبار بن الأسود .

209 إنَّ النبي صلى الله عليه وآله صلب عقبة بن أبي معيط بعد قتله .

211 حاجزبن السائب وأخاه عويمر بن السائب قتلهما علي عليه السلام .

232 النبي صلى الله عليه وآله أخذ اللواء من علي عليه السلام ودفعه إلى مصعب .

ج15 /5 قال ابن ابي الحديد : وزاد البلاذري في المتعاقدين على قتل النبي صلى الله عليه وآله عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي .

6 ابن قميئة في أُحد .

47 روايته عن ابن الكلبي أنَّ معاوية بن المغيرة جدع أنف حمزة يوم أُحد وقتله علي عليه السلام .

50-51 في قتل المجذر .

51 قول ابن الكلبي عبد الله بن حميد قتله علي عليه السلام .

ج16/ 181كلام زياد وهو غلام في مجلس عمر .

بعض روايات البلاذري من كتابه أنساب الأشراف :

قال البلاذري وهو يترجم لزيد بن علي (رض) : وقرأت في كتب سالم كاتب هشام كتاباً نسخته :

(أمّا بعد فقد عرفت حال أهل الكوفة في حبِّهم أهل البيت ، ووضعهم إيّاهم في غير مواضعهم لإفتراضهم على أنفسهم طاعتهم (ووظَّفوا عليهم شرائع دينهم) ، ونحلتهم إيّاهم عظيم ، ما هو كائن ممَّا استأثر الله بعلمه دونهم ، حتّى حملوهم على تفريق الجماعة والخروج على الأئمة .

وقد قَدِم زيد بن علي على أمير المؤمنين في خصومة فرأى رجلاً جدلاً لسناً حوّلاً قلَّباً خليقاً بصوغ الكلام وتمويهه واجترار الرجال بحلاوة لسانه وكثرة مخارجه في حججه وما يدلي به عند الخصام من العلو على الخصم بالقوَّة المؤدية إلى الفلج ، فعجِّل إشخاصه إلى الحجاز ولا تدعه المقام قِبَلك فإنَّه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لين لفظه وحلاوة منطقه مع ما يدلي به من القرابة برسول الله صلى الله عليه وآله وجدهم مُيَّلاً إليه  (9) غير مُتَّئِدة قلوبهم ، ولا ساكنة أحلامهم ، ولا مصونة عندهم أديانهم ، وبعض التحامل عليه فيه أذى له وإخراجه وتركه مع السلامة للجميع والحقن للدماء ، والأمن للفرقة أحبُّ إلىَّ من أمر فيه سفك دمائهم ، وانتشار كلمتهم وقطع نسلهم والجماعة حبل الله المتين ، ودين الله القويم ، وعروته الوثقى ، فادع إليك أشراف أهل المصر ، وأوعدهم العقوبة في الأبشار واستصفاء الأموال ، فإنَّ من له عقد أو عهد منهم سيبطى عنه ولا يخف معه إلاَّ الرعاع وأهل السواد ومن تنهضه الحاجة استلذاذاً للفتنة وأولئك ممَّن يستعبد إبليس وهو يستعبدهم . فبادرهم بالوعيد ، واعضضهم بسوطك ، وجرِّد فيهم سيفك ، وأخف الأشراف قبل الأوساط ، والأوساط قبل السفلة . واعلم أنَّك قائم على باب ألفة ، وداع إلى طاعة ، وحاض على جماعة ، ومشمِّر لدين الله فلا تستوحش لكثرتهم ، واجعل معقلك الذي تأوي إليه ، وصغوك الذي تخرج منه الثقة بربِّك ، والغضب لدينك ، والمحاماة عن الجماعة ، ومناصبة من أراد كسر هذا الباب الذي أمرهم الله بالدخول فيه ، والتشاح عليه ، فإنَّ أمير المؤمنين قد أعذر إليه وقضى من ذمامه ، فليس له منزى إلى ادّعاء حقّ هو له ظلمه من نصيب نفسه ، أو فى أو صلة لذي قربى إلاَّ الذي خاف أمير المؤمنين من حمل بادرة السفلة على الذي عسى أن يكونوا به أشقى وأضلَّ ، ولهم أمر ولأمير المؤمنين أعز وأسهل إلى حياطة الدين والذبِّ عنه ، فإنَّه لا يحبُّ أن يرى في أمَّته حالا متفاوتاً نكالا لهم مفنياً ، فهو يستديم النظرة ، ويتأتى للرشاد ويجتنبهم على المخاوف ، ويستجرهم إلى المراشد ، ويعدل بهم عن المهالك ، فعل الوالد الشفيق على ولده ، والراعي الحدب على رعيته . واعلم أنَّ من حجتك عليهم في استحقاق نصر الله لك عند معاندتهم توفيتك أطماعهم ، وأعطية ذريتهم ونهيك جندك أن ينـزلوا حريمهم ودورهم ، فانتهز رضا الله فيما أنت بسبيله فإنَّه ليس ذنب أسرع تعجيل عقوبة من بغي ، وقد أوقعهم الشيطان ودلاّهم فيه ، ودلَّهم عليه ، والعصمة بتارك البغي أولى ، فأمير المؤمنين يستعين الله عليهم وعلى غيرهم من رعيته ، ويسأل إلهه ومولاه ووليه أن يصلح منهم ما كان فاسداً ، وأن يسرع بهم إلى النجاة والفوز إنَّه سميع قريب  (10) .

قال البلاذري : وكتب زيد الى أهل الآفاق كتبا يصف فيها جور بني أمية وسوء سيرتهم ويحضهم على الجهاد ويدعوهم إليه وقال : لا تقولوا خرجنا غضبا لكم ولكن قولوا خرجنا غضبا لله ودينه .

وكان (زيد) إذا بويع قال : أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفئ على أهله ورد المظالم وإقفال الُمجَمَّرة ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب ، أتبايعون على هذا ؟ فيبايعونه ويضع يده على يد الرجل ثم يقول عليك عهد الله وميثاقه لتفينَّ لنا ولتنصحنَّ في السر والعلانية والرخاء والشدة والعسرة واليسرة فيماسح على ذلك  (11) .

قال البلاذري : وبعث يوسف بن عمر إلى ام إمرأة لزيد أزدية ، فهدم دارها وحملت إليه فقال لها : أزوَّجتِ زيدا ؟ قالت : نعم زوجته وهو سامع مطيع ولو خطب إليك إذ كان كذلك لزوَّجته . فقال : شُقّوا عليها ثيابها ، فجلدها بالسياط وهي تشتمه وتقول : ما أنت بعربي تعرِّيني وتضربني لعنك الله ، فماتت تحت السياط ثم أمر بها فأُلقيت في العراء ، فسرقها قومها ودفنوها في مقابرهم .

وأخذ إمرأة قوَّت زيدا على أمره فأمر بها أن تقطع يدها ورجلها ، وضرب عنق زوجها.

وضرب إمرأة أشارت على أمها أن تؤوي ابنة لزيد خمسمائة سوط .

وهدم دورا كثيرة .

وأُتِيَ يوسف بعبد الله بن يعقوب السلمي من ولد عتبة بن فرقد وكان زوَّجَ ابنته من يحيى بن زيد فقال له يوسف : ائتني بابنتك ، قال : وما تصنع بها جارية عاتق  (12) في البيت قال : أقسم لتأتيني بها أو لأضربنَّ عنقك ، وقد كان كتب إلى هشام يصف طاعته ، فأبى أن يأتيه بابنته فضرب عنقه ، وأمر العريف أن يأتيه بابنة عبد الله بن يعقوب فأبى فأمر به فدُقَّت يده ورجله .

قال البلاذري : ولما فرغ يوسف من أمر زيد ، صعد منبر الكوفة فشتم أهلها وقال : يا أهل المِدْرَة الخبيثة والله ما يقعقع لي بالشِّنان ولا تقرن بي الصعبة ، لقد هممت أن أخرب بلدكم وأن أحربكم بأموالكم ، والله ما أطلت منبري إلا لأسمعكم عليه ما تكرهون ، فإنكم أهل بغي وخلاف ، ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم ولو فعل لقتلت مقاتلتكم ، وسبيت نساءكم ، إن يحيى بن زيد  (13) ليتنقل في حجال نسائكم كما كان أبوه يفعل ، وما فيكم مطيع إلا حكيم بن شريك المحاربي ، والله لو ظفرت بيحياكم لعرقت خصييه كما عرقت خصيتي أبيه  (14) .

______________________

(1) قال ياقوت في معجم الأدباء 5/92 : ولا أدري أيهما شرب البلاذر ! أحمد بن يحيى بن جابر بن داود أو جابربن داود ، إلا أن الذي ما ذكره الجهشياري يدل على أن الذي شرب البلاذر هو جده ...

(2) ابن حجر : لسان الميزان 1/322 .

(3) اقول : أنظر ترجمة البلاذري للدكتور صلاح الدين المنجد في مقدمة فتوح البلدان ص 8-10  .

(4) وسمع من هشام بن عمار (ت246) وأبا حفص الدمشقي (ت225) ومحمد بن مصفى (ت246) (ترجمة المنجد) .

(5) حققه الدكتور صلاح الدين المنجد وطبع في القاهرة مع فهارس أربعة ومستدرك ، وكان قد نشره قبله المستشرق الهولندي دخويه في ليدن في ثلاثة أقسام من سنة 1863-1866 وألحق به فهرسا للأعلام وآخر للرواة والفقهاء وثالثا للأماكن ومعجما للألفاظ ومستدركا . ثم نشرته شركة طبع الكتب العربية بالقاهرة سنة 1901 عن طبعة دخويه .

(6) أقول : الصحيح هو نوع من الشهرة بسبب اشتهار رواية راو من الرواة وبالتالي فان الخبر المصدر بلفظة (قالوا) لا يعني صحته أو وثاقته .

(7) شاكر مصطفى : التاريخ العربي والمؤرِّخون ج1/243 .

(8) نشرت دار المعارف بالقاهرة سنة 1959 الجزء الاول من أنساب الأشراف الخاص بالسيرة النبوية ، ثم نشر الشيخ محمد باقر المحمودي الجزء الثاني والثالث في ترجمة الطالبيين سنة 1973 وما بعدها ، وكانت الجامعة العبرية بالقدس قد نشرت الجزء الرابع والخامس في ترجمة بني أمية وأعاد تحقيقهما الدكتور إحسان عباس وطبعا في بيروت 1979 ثم نشر الدكتور عبد العزيز الدوري القسم الخاص ببني العباس سنة 1978 ، ثم نشر الكتاب كاملا سنة 1417 في (13) جزءا بتحقيق الدكتور سهيل زكار والدكتور رياض زركلي .

(9) إلى هنا ينتهي نصّ الكتاب لدى البلاذري ج3/434-ط دار الفكر بيروت 1417 .

(10) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري ج 7 / 170 -171ولم يذكر الطبري مصدره الذي أخذ الرواية عنه .

(11) البلاذري : أنساب الأشراف ج3/434-435 .

(12) العاتق : الجارية أول ما أدركت .

(13) ترجم البلاذري ليحيى بن زيد وحركته ومقتله في الجوزجان في ج3/453-458 .

(14) البلاذري : أنساب الأشراف ج3 /448-450 .

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري