السابقالتاليالمحتوياتالصفحة الأساسية

الحلقة الثانية - صفحة 123

الفصل السابع :

قصة متعة الحج والعبرة منها

قال البغدادي :

لو كان ثمة نص على علي (ع) فأن الصحابة اكبر من ان يخالفوا أمر النبي (ص) .

يقال له:

لم يكن الصحابة معصومين وقد تورطوا في اكثر من مرة بمخالفة النص الصريح وقصة متعة الحج من اكبر الشواهد .


صفحة 125

 

نص الشبهة

قال البغدادي :

“ ان من الغرابة بمكان ان يكون الطريق الوحيد هو ان يختار النبي بأمر الله شخصا / هو علي / يعده قياديا ورساليا ومع ذلك لم يجد أغلبية تؤيده من الجيل الطليعي للامة ”.

 

الرد على الشبهة

اقول : تزول هذه الغرابة إذا عرفنا ان أغلبية الصحابة كانوا قد خالفوا في تشريعات عبادية فضلا عن غيرها ولعل افضل حادثة تصور لنا هذه الحقيقة بكل وضوح هي مسألة حج التمتع وقد وردت أخبارها في كل كتب الحديث والى القارئ الكريم خلاصة عنها :


صفحة 126

العمرة والحج في الإسلام :

هناك ثلاثة أنواع من الحج في الإسلام :

الأول حج التمتع: وهو فرض من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، ويتألف من عمرة التمتع وحج التمتع ، وصورة عمرة التمتع هي ، ان يحرم من الميقات في اشهر الحج ثم يأتي مكةويطوف بها سبعا ، ثم يصلي ركعتي الطواف ، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعا ، ثم يقصر ، فيحل من جميع ما حرم عليه بالإحرام ، ويقيم بمكة محلا إلى يوم التروية أي اليوم الثامن من ذي الحجة فينشئ إحراما لحج التمتع من الحرم ، ثم يخرج إلى عرفات ، ثم يفيض عنها بعد غروب التاسع إلى المشعر ، ومنه إلى منى لرمي جمرة العقبة الكبرى ، ثم الذبح ثم الحلق ان كان حجه صرورة وبه يتحلل إلا من النساء والطيب ، ثم يطوف ويصلي ويسعى فيحل له الطيب ، ثم يطوف طواف النساء ويصلي فتحل له النساء ، ثم يرجع إلى منى للمبيت بها ورمي الجمرات الثلاث ، فإذا بات ليلتين بمنى جاز له النفر في اليوم الثاني عشر بعد الزوال ، ويسمى هذا الحج بحج التمتع ، لان الحاج يتمتع بالحل بين إحرامي العمرة ، والحج ومدة الحل بين الإحرامين هي متعة الحج التي حرمها الخليفة عمر


صفحة 127

وتبعه اكثر المسلمين في وقته .

الثانى حج الإفراد: ويتألف من حج أولا ثم عمرة يأتي بها بعد الانتهاء من المناسك في منى ، وتسمى هذه العمرة بالمفردة ، كما يسمى الحج بحج الإفراد ، لان الحاج يأتي بكل منهما مفردا وليس في هذا الحج هدي .

الثالث حج القران : هو كحج الإفراد مع ملاحظة ان الحاج يسوق الهدي معه عند إحرامه ، وقد سمي بذلك لان الحاج يقرن بين التلبية وسوق الهدي .

والنوعان الأخيران من الحج فرض حاضري المسجد الحرام .

 

العمرة والحج في الجاهلية:

كان الحج والعمرة من اهم الشعائر في الجاهلية وهما إضافة إلى أمور أخرى مما بقي من دين إبراهيم (ع) ، وقد تحملت قريشبوصفها سكان البيت وذرية ابراهيم (ع) مسئولية إقامة الحج وتعليم الناس الوافدين إلى مكة أحكام الحج وكانت مكة قد عَظُمَ شأنها بعد حادثة الفيل ، وانعكس ذلك على قريش ، وابتدعت قريش بعد وفاة عبد المطلب بدعا خاصة في الحج وتابعتها العرب على ذلك ، وكان


صفحة 128

من تلك البدع هو بدعة تحريم العمرة في اشهر الحج وجعلها من افجر الفجور .

قال ابن القيم : (اعتمر رسول الله (ص) بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة .. والمقصود مخالفة هدي المشركين فانهم كانوا يكرهون العمرة في اشهر الحج) زاد المعاد 1 / 209.

 

حجة الوداع:

كانت حجة الوداع هي الحجة الأولى والأخيرة التي بيَّنالنبي (ص) فيها أحكام حج التمتع ، وكان قد جعل عمرة التمتع جزءا من الحج ، وقد وقعت هذه الحجة في السنة العاشرة من الهجرة ، وذلك بعد ان أسلمت جزيرة العرب ومن شاء الله من أهل اليمن وقدم المدينة بشر كثير يريدون ان يأتموا برسول الله (ص) ، قال أهل السير : “ فخرج لخمس بقين من ذي القعدة ومعه أزواجه وأهل بيته وعامة المهاجرين والأنصار ومن شاء الله من قبائل العرب وإفناء الناس ” (1) .


(1) الامتاع 1 : 511 . وفي السيرة الحلبية 3 :308 ان الذين خرجوا معه كانوا اربعين الفا وقيل كانوا سبعين الفا وقيل كانوا تسعين الفا وقيل كانوا مائة الف واربعة عشر الفا وقيل عشرين الفا وقيل كانوا اكثر من ذلك .


صفحة 129

روى أبو داود في سننه (1) ان النبي (ص) لما وصل إلى عسفان (وهي بين الجحفة ومكة والجحفة تبعد عن مكة أربعة مراحل) قال له سراقة بن مالك المذحجي يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال (ص) :

“ ان الله تعالى قد ادخل عليكم في حجكم هذا عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلاّ من كان معه هدي ”.

وتكرر منه (ص) نظير ذلك في (سَرَف) التي تبعد ستة أميال من مكة (2) .

ولننظر الاَّن كيف تلقى الصحابة تشريع حج التمتع .

 

موقف قريش من حج التمتع :

روى مسلم في صحيحه (3) عن جابر قال :


(1) 1 : 159 .

(2) صحيح البخاري 1 : 189 . وصحيح مسلم : 875 . وأيضا في بطحاء مكةسنن البيهقي5 : 4 .

(3) صحيح مسلم : 882 ح138 .


صفحة 130

“ أهللنا مع رسول الله (ص) بالحج فلما قدمنا مكة امرنا ان نحل ونجعلها عمرة فَكَبُرَ ذلك علينا وضاقت به صدورنا فبلغ ذلك النبي (ص) .. فقال : أيها الناس أحلوا ، فلولا الهدي الذي معي فعلت مثل الذي أمرتكم به . قال فأحللنا حتى وطئنا النساء ، وفعلنا ما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج ”.

وفي رواية البخاري في صحيحه عن جابر أيضا :

“ فبلغه (أي النبي (ص)) انا نقول : لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس امرنا ان نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا ”. ومثله رواية مسلم وابن ماجة وأبي داود ومسند احمد .

وفي رواية أخرى للبخاري (1) أيضا :

“ ففشت في ذلك القالَةُ فبلغ ذلك النبي (ص) فقام خطيبا فقال : بلغني ان أقواما يقولون كذا وكذا والله لانا أبَرُّ واتقى لله منهم ”.

وفي رواية سنن ابن ماجة ومسند احمد ومجمع الزوائد :

“ قال الناس يا رسول الله قد احرمنا بالحج فيكف نجعلها عمرة ؟ قال : انظروا ما آمركم به فافعلوا ، فردوا عليه القول ،


(1) 2 : 52 .


صفحة 131

فغضب ، فانطلق ثم دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت : من أغضبك أغضبه الله ! قال : ما لي لا اغضب وأنا آمر أمرا فلا أُتَّبَع ” (1) .

وفي رواية مسلم (2) :

“ قالت عائشة : قدم رسول الله (ص) لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل عليَّ وهو غضبان ، فقلت من أغضبك يا رسول الله ادخله الله النار ؟ قال : وما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ”.

قال العلامة العسكري:

“ يبدو ان الممتنعين من التمتع بالعمرة إلى الحج الذين تعاظم عليهم ذلك كانوا من مهاجرة قريش من أصحاب النبي ويدل على ذلك أولا : ما رواه ابن عباس في حديثه (ان هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة ومحرم) . وثانيا : ان الذين منعوها بعد رسول الله (ص) هم ولاة المسلمين من قريش ”.


(1) مسند احمد 4 : 286 ، مجمع الزوائد 3 : 233 ، سنن ابن ماجة : 993 .

(2) صحيح مسلم : 879 .


صفحة 132

حج التمتع على عهد ابي بكر:

روى البيهقي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال :

“ حججتُ مع أبي بكر فجرَّد ، ومع عمر فجرد ومع عثمانفجرد ” (1) . ومعنى جَرَّد أي افرد الحج .

 

حج التمتع على عهد عمر:

روى مالك بن انس في الموطأ عن عبد الله بن عمر قال :

“ ان عمر بن الخطاب قال : افصلوا بين حجكم وعمرتكم فان ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته ان يعتمر في غير اشهر الحج ”.

وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند احمد وغيرهم عن أبي موسى الاشعري قال :

“ كنت أفتي الناس بذلك (أي بالحل بعد إتمام أعمال متعة الحج) في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال انك لا تدري ما احدث أمير المؤمنين في شان النُّسُك فقلت : أيها الناس من كنا أفتيناه بشىء فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم


(1) سنن البيهقي 5 : 5 .


صفحة 133

عليكم فبه ائتموا (1) .. ثم ذكر أمره بفصل الحج عن العمرة ”.

وفي حلية الأولياء (2) :

“ ان عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في اشهر الحج وقال : فعلتها مع رسول الله وأنا أنهى عنها وذلك:

ان أحدكم يأتي من أفق من الاَّفاق شعثا نصبا معتمرا اشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيب ويقع على أهله ان كانوا معه حتى إذا كان يوم الترويةأهَلَّ بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوما ، والحج افضل من العمرة ، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك ،

وان أهل هذا البيت (أي أهل مكة) ليس لهم ضرع ولا زرع ، وإنما ربيعهم في من يطرأ عليهم ”.


(1) يؤكد قول الاشعري هذا ان السلطة القرشية بعد النبي (ص) كانت قد عرضت نفسها على انها السلطة التشريعية ، بمعنى ان الدين هو ما تقرره ، مضافا الى السلطة الاجرائية .

(2) 5 : 205 .


صفحة 134

وفي رواية مسلم :

“ فقال عمر : قد علمت ان النبي فعله وأصحابه ولكن كرهت ان يضلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم ” (1) .

وقد نقل النووي في شرح صحيح مسلم (2) عن القاضي عياض“ ان عمر كان يضرب على متعة الحج ”.

 

حج التمتع على عهد عثمان:

تابَعَ الخليفة عثمان سَلَفه عمر في ما استن من الفصل بين الحج والعمرة والضرب عليها قال ابن حزم (3) : “ ان عثمان سمع رجلا يُهِلُّ بعمرة وحج ، فقال : عليَّ بالمُهِل ، فضربه وحلقه ”، الضرب للتأديب والحلق للتشهير ، وفي الشطر الثاني من خلافة عثمان حيث


(1) صحيح مسلم : 896 ح157 . مسند الطيالسي 2 : 70 ح516 . مسند احم1د : 49 ـ 50 ، سنن النسائي 2 : 16 . من هذه الرواية نفهم ان عمر كان من الذين انكروا على رسول الله (ص) امر متعة الحج وانه قال ضمن من قال (انغدوا حجاجا ورؤوسنا تقطر) .

(2) 1 : 170 .

(3) المحلى 7 : 107 .


صفحة 135

نَقِمَ المسلمون عليه كثيرا من أحداثه ، سجلت كتب الحديث اكثر من رواية تشرح معارضة علي (ع) بقوة تحريم متعة الحج .

 

موقف علي (ع) من حج التمتع:

روى مالك في الموطأ :

“ ان المقداد بن الأسود دخل على علي (ع) بالسُقْيا وهو يُنجِع بَكرات له دقيقا وخبطا ، فقال هذا عثمان بن عفان ينهى ان يقرن بين الحج والعمرة ، فخرج علي (ع) وعلى يديه اثر الدقيق والخبط فما أنسى اثر الدقيق والخبط ، على ذراعيه ، حتى دخل على عثمان فقال : أنت تنهى عن ان يُقْرَنَ بين الحج والعمرة ، فقال : عثمان ذلك رأيي ، فخرج عليٌّ (ع) مغضبا وهو يقول : لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا ” (1) .


(1) موطأ مالك الحديث 40 من باب القِران في الحج : 336 ، وابن كثير 5 : 129 ، و(السقيا) قرية جامعة بطريق مكة ، و(ينجع) يسقي ، و(بكرات) جمع بكرة ولد الناقة أو الفتى منها ، و(الخَبْط) ضرب من ورق الشجر حتى ينحات عنه ثم يستخلف من غير ان يضر ذلك باصل الشجر واغصانها قال الليث (الخَبَط) خَبَط ورق العِظاء من الطلح ونحوه يخبط يضرب بالعصا فيتناثر ثم يعلف الابل .


صفحة 136

وفي سنن النسائي ومستدرك الصحيحين ومسند احمد واللفظ للاول عن سعيد بن المسيب قال :

“ حج علي وعثمان فلما كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع فقال علي إذا رأيته ارتحل فارتحلوا فلبى علي وأصحابه بالعمرة  ” (1) .

قال الإمام السندي بهامشه :

“ قال (إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا) أي ارتحلوا معه ملبين بالعمرة ليعلم أنكم قدمتم السنة على قوله ، وانه لا طاعة له في مقابل السنة ” (2) .

وفي صحيح البخاري وسنن النسائي وسنن الدارمي وسنن البيهقي ومسند احمد ومسند الطيالسي وغيرها عن علي بن


(1) سنن النسائي 2 : 15 كتاب الحج باب حج التمتع . ومسند احمد 1 : 57 الحديث 402 بمسند عثمان . ومستدرك الصحيحين 1 : 472 . وتاريخ ابن كثير 5 : 126 و 127 .

(2) يتضح من الرواية وتعليق السندي ان عليا (ع) واصحابه كانوا في الحج على السنة وكان عمر وعثمان ومن اقتدى بهما على خلاف السنة .


صفحة 137

الحسين (ع) عن مروان بن الحكم قال :

“ شهدت عثمان وعليا (ع) وعثمان ينهى عن المتعة وان يجمع بينهما فلما رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة معا قال ما كنت لأدع سنة النبي (ص) لقول أحد ” (1) .

وفي لفظ النسائي :

“ فقال عثمان أتفعلها وأنا أنهى عنها فقال علي لم اكن لأدع سنة رسول الله لأحد من الناس ”.

هذا هو موقف علي (ع) من أمر متعة الحج في عهد عثمان ، وهو موقفه ايضا في عهد عمر ولكنه (ع) لم يتابع إنكاره على عمر ، بقوة لشدة عمر المعروفة ولما تولى علي (ع) الأمر بعد قتل عثمان كان من الطبيعي ان يحث على إقامة سنة النبي (ص) في حج التمتع وغيرها وكذلك كان الأمر في عهد الحسن (ع) .

 

حج التمتع على عهد معاوية :

لما تولى معاوية أمر الحكم عمل على إحياء سنن الخلفاء الثلاثة وكان منها تحريم متعة الحج ففي سنن النسائي عن ابن عباس قال : هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة . وقد تمتع النبي (ص) .


(1) صحيح البخاري 1 : 190 .


صفحة 138

وفي موطأ مالك وسنن النسائي وسنن الترمذي عن محمد بن عبد الله بن الحارث : “ انه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية ، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحاك : يا بن قيس لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله عز وجل ، فقال سعد : بئس ما قلت يا بن أخي ، فقال الضحاك : فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك ، فقال سعد : قد فعلها رسول الله وفعلناها معه ”.

أقول : قوله (قد فعلها رسول الله) ، تعبير غير صحيح من الراوي لان رسول الله (ص) كان قد ساق الهدي ولم يحل ، وإنما أمر بالحل .

لقد جدَّ معاوية خاصة بعد وفاة الحسن (ع) في المنع من متعة الحج فلم يكن يجرؤ من يعرف الحقيقة وثبت عليها من المجاهرة بها كما يظهر من الرواية الاَّتية :

روى مسلم عن مطرف قال :

“ بعث إليَّ عمران بن الحصين في مرضه الذي توفي منه فقال : أني محدثك بأحاديث لعل الله ان ينفعك بها بعدي فان عشت فاكتم عني وان مت فحدث بها ان شئت .. واعلم ان نبي الله (ص) قد جمع بين حج وعمرة ، ثم لم ينزل فيها كتاب يحرم ، ولم ينه عنها رسول


صفحة 139

الله ، قال فيها رجل برأيه ما شاء ” (1) .

اقول : اراد بالرجل الذي قال فيها برأيه ما شاء هو عمر .

 

حج التمتع على عهد ابن الزبير:

ولما ولي ابن الزبير مكة اكثر من عشر سنوات واصل هو وبنو أبيه في منع المسلمين من عمرة التمتع فوقعت بينهم وبين أتباع علي (ع) مناظرات ومساجلات ، ففي صحيح مسلم (2) : “ كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها ”.

وفي زاد المعاد : “ قال عبد الله بن الزبير افرِدوا الحج أي لا تجمعوا بين الحج والعمرة ودعوا قول أعماكم هذا (يريد ابن عباس) ، فقال عبد الله بن عباس : ان الذي أعمى قلبه لأنت ، ألا تسأل أمك عن هذا ، فأرسل إليها فقالت : صدق ابن عباس جئنا مع


(1) صحيح مسلم ج168 : 161 ، 169 . وعمران بن حصين توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين . يتضح من هذه الرواية ان السلطة القرشية بعد النبي (ص) كانت قد عرَّضت سنة محمد (ص) للتحريف حين ادخلت فيها برأيها ما شاءت كما عرَّضت سنة ابراهيم في الحج بعد وفاة عبد المطلب حين ادخلت فيها برأيها ما شاءت من بدعة الحمس وتحريم العمرة في اشهر الحج .

(2) الحديث 194 .


صفحة 140

رسول الله (ص) حجاجا فجعلناها عمرة ، فحللنا الإحلال كله ، حتى سطعت المَجامِر بين الرجال والنساء ” (1) .

وفي مسند احمد :

“قال عروة بن الزبير لابن عباس : متى تضل الناس يا بن عباس ؟

قال وما ذاك يا عُرَيَّة (2) ؟

قال تأمرنا بالعمرة في اشهر الحج وقد نهى عنها أبو بكر وعمر !

فقال ابن عباس : قد فعلها رسول الله (ص) (3) . وفي رواية أخرى “ فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون أقول قال النبي (ص) ويقولون نهى أبو بكر وعمر (4) .

وفي صحيح مسلم عن أبي نضرة قال : “ كنت عند جابر فأتاه آت فقال : ان ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر فعلناها مع رسول الله ثم نهى عنها عمر فلم نَعُد لهما (5) .


(1) زاد المعاد 1 : 248 . انظر أيضا زوائد المسانيد الثمانية 1 : 330 الحديث 1108 والمصنف لابن أبي شيبة 4 : 103 .

(2) تصغير عروة .

(3) مسند احمد 1 : 252 .

(4) مسند احمد : 337 .

(5) صحيح مسلم الحديث 1249 ص 914 .


صفحة 141

ولم يفلح ابن الزبير في إرجاع الناس في أمر متعة الحج إلى ما سنه فيها عمر ، وتعلقت قلوبهم بسنة النبي (ص) كما أحياها علي (ع) ، ففي صحيح مسلم :

“ قال رجل من بني الهجيم لابن عباس ما هذه الفتيا التي تشغفت أو تشغبت بالناس ان من طاف بالبيت فقد حل فقال سنة نبيكم وان رغمتم ، وفي رواية بعدها : ان هذا الأمر قد تفشغ بالناس من طاف بالبيت فقد حل ” (1) . وقوله تشغفت أي علقت بقلوب الناس وتشغبت أي خلطت عليهم أمرهم وتفشغ أي انتشر وفشا بين الناس .

 

حج التمتع على عهد بني مروان:

وحاول عبد الملك ومن جاء من بعده من حكام بني أمية أحياء موقف عمر ، وكان الناس في زمانهم يتخوفون من الإفتاء بمتعة الحج ، كما يظهر ذلك من رواية ابن حزم عن منصور بن المعتمرقال : “ حج الحسن البصري وحججت معه في ذلك العام ، فلما قدمنا مكة جاء رجل إلى الحسن ، فقال : يا أبا سعيد إني رجل بعيد الشقة من أهل خراسان وإني قدمت مُهِلاًّ بالحج ، فقال له الحسن :


(1) صحيح مسلم 206 : 207 .


صفحة 142

اجعلها عمرة واحل ، فانكر ذلك الناس على الحسن ، وشاع قوله بمكة ، فأتى عطاء بن أبي رباح فذكر ذلك له ، فقال صدق الشيخ لكنا نفرق ان نتكلم بذلك ” (1) .

 

حج التمتع على عهد بني العباس:

زال الـتخوف والـحرج عن الـمسلمين عن الـعمل بمتعة الـحج في عـصر بنـي العـباس ، وانتشر القـول بعمرة التمتع علـى عهدهم ، ولـعل لـموقف جـدهم عـبد الله بـن العباس دخـلا في ذلك ، وعلـى عهدهم تبنى احمد بن حنبل القول بعمرة التمتع ثم استمر في أتباعه إلى اليوم (2) .

العبرة من قصة حج التمتع:

أقول : إذا كان سبعون ألفا إلى مائة ألف أو اكثر كانوا مع رسول الله (ص) في حجة الوداع ، وهي آخر سنة من حركة النبوة ، قد سمعوا


(1) المحلى 7 : 103 . توفي الحسن البصري سنة 110 هجـ وقد قارب التسعين وعطاء توفيسنة114هجـ .

(2) استفدنا اكثر ما ورد من بحث العلامة العسكري في كتابه معالم المدرستينط4 ج2 :197ـ251 . ويعد بحثه في حج التمتع بحق افضل ماكتب فيبابه .


صفحة 143

من النبي (ص) أمر حج التمتع ثم عملوا به بعد مشاكسة وممانعة ، ومع ذلك استطاع الخليفة عمر ان ينهاهم عنها ، ويعاقبهم إذا خالفوا أمره فيها ، ولم يجرؤ على الوقوف أمام هذه المخالفة إلا علي (ع) ونفر من أصحابه معه كمقداد وعمار وغيرهما ، فهل يُستغرَب منهم ان يخالفوا نص النبي (ص) في علي (ع) في حادثة الغدير ودواعي المخالفة هنا أقوى لمكان الرئاسة والتقدم على الغير ؟

ثم لو قارن الباحث بين كيفية تبليغ النبي (ص) حكم متعة الحج وتدرجه فيه وكيفية تبليغ النص في ولاية علي (ع) وتدرجه فيه ، ثم ردود الفعل إزاء الحُكمين في زمان النبي وبعده ، وكيفية تخطيط علي (ع) لإحياء نص النبي (ص) فيه وفي أهل بيته يوم الغدير وإحياء سنته (ص) في متعة الحج ، لدهش من شدة التشابه ، وقد جعل الله تعالى في ذلك عبرة لمن أراد الاعتبار .

ويتضح تدرج النبي (ص) في تبليغه امر متعة الحج حين سئل في الطريق عن ذلك وقوله (ص) (دخلت العمرة في الحج الى الابد) ، وقوله (ص) (من شاء منكم ان يجعلها عمرة او يجعلها حجة) . ثم لما اتموا طوافهم امرهم امرا قاطعا بان من لم يسق الهدي ان يجعلها عمرة وكان رد فعلهم زمن النبي (ص) هو كثرة لغطهم ومناقشتهم


صفحة 144

للنبي (ص) حتى اغضبوه ، اما رد فعلهم بعد وفاة النبي (ص) فهو العمل على خلافها زمن ابي بكر ثم نهي عمر كل المسلمين عن العمل بها .

وتميز موقف علي (ع) بالاستنكار على عمر استنكارا لينا لما يعلم من شدته ، ثم استنكارا شديدا على عثمان في اخريات حكومته حيث تضعضعت سلطته ، وكثر كلام الناس عليه ، ثم العمل على احياء متعة الحج زمان حكمه .

اما تدرج النبي (ص) في تبليغه الولاية لاهل البيت (ع) وتسمية علي (ع) فهو واضح لمن يتأمل كلمات النبي (ص) فيهم منذ واقعة الدار والى ما قبل حجة الوداع ، اذ يجدها خاصة غير عامة فحديث الدار كان مع بني هاشم ، وحديث الكساء كان امام ام سلمة وامام هذه المجموعة او تلك من اصحابه وهكذا الامر في كل ما اثر عنه (ص) من احاديث في فضل علي (ع) او احد من اهل بيته ، اما في خطبته يوم عرفة وحديثه في الغدير فقد كان ذكر اهل بيته وعلي (ع) امام كل اصحابه الذين بلغ عددهم مأة الف او يزيدون ، وقد كثر لغطهم لما قرن النبي (ص) اهل بيته بالقرآن وجعل التمسك بهما امانا من الضلالة وذكر الاثني عشر منهم (1) ، وبسبب اللغط والصخب لم يسم عليا في خطبته في عرفة .


(1) مسند احمد ج5 : 99 حديث سمرة بن جندب ؟


صفحة 145

وعند رجوعه (ص) من الحج ووصوله الى غدير خم نزل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَالنَّاسِ إِنَّ اللهَ لايَهْدِيالقَوْمَ الكَافِرِينَ) فقام النبي وخطب اصحابه وذكر اهل بيته (ع) وسمى عليا (ع) ، وجعل ولاية علي كولايته وهي كولاية الله تعالى واستجاب الناس لامر الله في علي وسلموا جميعا عليه بامرة المؤمنين ، حتى قال عمر بخ بخ لك يا علي اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن و مؤمنة .

وكان رد الفعل بعد وفاة النبي (ص) هو العدول عن علي (ع) بل النهي عن ذكر احاديث النبي فيه وفي اهل بيته بل نهيهم عن رواية السنة النبوية مطلقا كرد فعلهم ازاء حج التمتع ونهيهم عنها ، كما مرت مصادر دلك فى صفحة 159 ـ 163 من هذا الكتاب .

وتميز موقف علي (ع) بالاستنكار على اهل السقيفة والامتناع عن البيعة ثم سالمهم حفظا على حياته ، ولما صار الامر اليه بعد قتل عثمان احيا ما ذكره النبي (ص) فيه وفي اهل بيته ، وفي مسجد الكوفة وهو يجمع الالاف المؤلفة من المصلين روى علي (ع) حديث الغدير ، واستنشد من كان حاضرا من الصحابة لتأييده ، وبسبب ذلك صارت رواية حديث الغدير متميزة من ناحية كثرة رواتها من


صفحة 146

الصحابة والتابعين وقد سجل الحافظ ابن عقدة في القرن الرابع الهجري رواية مأة وعشرة من الصحابة الامر الذي لم يسجل مثله لاي حديث آخر من احاديث النبي (ص) سواء في الفضائل او في الاحكام .

 السابقالتاليالمحتوياتالصفحة الأساسية