المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الثالث : تعريف بالموسوعات التاريخية وأصولها ومصنفيها
الفصل الثاني: تراجم أصحاب الموسوعات التاريخية التي اعتمد عليها ابن أبي الحديد

المسعودي (ت345)

هو أبو الحسن علي بن الحسين ، ينتهي نسبه إلى عبد الله بن مسعود الصحابي المشهور ، ولد في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ، وتوفي في الفسطاط سنة 346 هـ .

وهو بغدادي المولد والمنشأ لقوله عن إقليم بابل : (وأشرف هذا الإقليم مدينة السلام ويعزُّ علىَّ ما أصارتني إليه الأقدار من فراق هذا المصر الذي عن بقعته فُصِلنا وفي قاعه نَجَمنا)  (1) .

قال الذهبي : المسعودي  (2) صاحب "مروج الذهب" وغيره من التواريخ  (3)أبوالحسن علي بن الحسين بن علي من ذرية ابن مسعود عداده في البغاددةونـزل مصر مدة . وكان معتزلياً .

أخذ عن أبي خليفة الجمحي ، ونفطويه ، وعدَّة . مات في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وثلاث مئة  (4) .

مقدمة المسعودي في ذكر المصنَّفات التاريخية قبله :

ذكرالمسعودي في مقدمة كتابه مروج الذهب أهم المصادر في التاريخ المؤلفة قبله وقد استفاد من كثير منها في تأليف مروج الذهب وأخبار الزمان وغيرهما .

قال : قد ألَّف الناس كتباً في التاريخ والأخبار ممَّن سلف وخلف ، فأصاب البعض وأخطأ البعض ، وكلٌّ قد اجتهد بغاية إمكانه ، وأظهر مكنون جوهر فطنته :

كوهب بن منبِّه  (5) ، وأبي مخنف لوط بن يحيى العامري ، ومحمد بن إسحاق ، والواقدي (محمد بن عمر تـ207 هـ) ، وابن الكلبي (هشام بن محمد بن السائب تـ204هـ) ، وأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت2 11هـ) ، وأبي العباس الهمداني ، والهيثم بن عدي الطائي (تـ206هـ)والشرقي بن القطامي (تـ155 هـ) ، وحماد الراوية ، والأصمعي ، وسهل بن هارونوعبد الله بن المقفع ، واليزيدي ، ومحمد بن عبد الله العتبي الأموي ، وأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري ، والنضر بن شميل ، وعبد الله بن عائشة ، وأبي عبيد القاسم بن سلام (تـ224هـ) ، وعلي بن محمد المدائني (تـ225هـ) ، ودماذ بن رفيع بن سلمة ، ومحمد بن سلام الجمحي ، وأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (تـ255هـ) ، وأبي زيد عمر بن شبة النميري (تـ262هـ) ، والزرقي الأنصاري ، وأبي السائب المخزومي ، وعلي بن محمد بن سليمان النوفلي ، والزبير بن بكار (تـ256هـ) ، والإنجيلي والرياشي ، وابن عابد ، وعمارة بن وسيمة المصريوعيسى بن لهيعة المصري (تـ145هـ) ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، وأبي حسان الزيادي ، ومحمد بن موسى الخوارزمي ، وأبي جعفر محمد بن أبي السري ، ومحمد بن الهيثم بن شبابة الخراساني صاحب كتاب (الدولة) ، وإسحاق بن إبراهيم الموصلي صاحب كتاب (الأغاني) وغيره من الكتب ، والخليل بن الهيثم الهرتمي صاحب كتاب (الحيل والمكايد في الحروب) وغيره ، ومحمد بن يزيد المبرَّد الأزدي ، ومحمد بن سليمان المنقري الجوهري ، ومحمد بن زكريا الغلابي المصري المصنِّف للكتاب المترجم بكتاب (الأجواد) وغيره ، وابن أبي الدنيا مؤدِّب المكتفي بالله ، وأحمد بن محمد الخزاعي المعروف بالخاقاني الأنطاكي ، وعبد الله بن محمد بن محفوظ البلوي الأنصاري صاحب أبي يزيد عمارة بن زيد المديني ، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي الكاتب صاحب (التبيان)وأحمد بن أبي طاهر صاحب الكتاب المعروف بـ (أخبار بغداد) وغيره ، وابن الوشاء وعلي بن مجاهد صاحب الكتاب المعروف بـ (أخبار الامويين) وغيرهومحمد بن صالح بن النطاح صاحب كتاب (الدولة العباسية) وغيره ، ويوسف بن إبراهيم صاحب (أخبار إبراهيم بن المهدي) وغيرها ، ومحمد بن الحارث الثعلبي صاحب الكتاب المعروف بـ (أخلاق الملوك) المؤلَّف للفتح بن خاقان وغيره ، وأبي سعيد السكري صاحب كتاب (أبيات العرب) .

وعبيد الله بن عبد الله بن خرداذبة ، فإنَّه كان إماماً في التأليف متبرِّعاً في ملاحة التصنيف ، اتَّبعه من يعتمد ، وأخذ منه ، ووطئ على عقبه ، وقفا أثره ، وإذا أردت أن تعلم صحة ذلك فانظر إلى كتابه الكبير في التاريخ فإنَّه أجمع هذه الكتب جدّاً ، وأبرعها نظماً ، وأكثرها علماًوحوى لأخبار الأُمم وملوكها وسيرها من الأعاجم وغيرها ، ومن كتبه النفيسة كتابه في المسالك والممالك ، وغير ذلك ممَّا إذا طلبته وجدته ، وإذا تفقَّدته حمدته .

وكتاب التاريخ من المولد إلى الوفاة ، ومن كان بعد النبي صلى الله عليه وآله من الخلفاء إلى خلافة المعتضد بالله ، وما كان من الأحداث والكوائن في أيَّامهم وأخبارهم تأليف محمد بن علي الحسيني العلوي الدينوري .

وكتاب التاريخ لأحمد بن يحيى البلاذري ، وكتابه أيضاً في البلدان وفتوحها من هجرة النبي وما فتح في أيَّامه وعلى يد الخلفاء بعده ، وما كان من الأخبار في ذلك ، ووصف البلدان في الشرق والغرب والشمال والجنوب ، ولا نعلم في فتوح البلدان أحسن منه . وكتاب داود بن الجراح . وكتاب (التاريخ) الجامع لفنون من الأخبار والكوائن في الأعصار قبل الإسلام وبعده ، تأليف أبي عبد الله محمد بن الحسين ابن سوار المعروف بابن أخت عيسى بن فرخان شاه ، بلغ في تصنيفه إلى سنة عشرين وثلثمائة .

وتاريخ أبي عيسى بن المنجم على ما أنبأت به التوراة وغير ذلك من أخبار الأنبياء والملوك .

وكتاب التاريخ وأخبار الأمويين ومناقبهم وذكر فضائلهم وما أتوا به عن غيرهم وما أحدثوه من السير في أيَّامهم تأليف أبي عبد الرحمن خالد بن هشام الأموي .

وكتاب القاضي أبي بشر الدولابي في التاريخ .

والكتاب (الشريف) تأليف أبي بكر محمد بن خلف بن وكيع القاضي في التاريخ وغيره من الأخبار لمحمد بن خالد الهاشمي .

وكتاب التاريخ والسير لأبي إسحاق بن سليمان الهاشمي .

وكتاب سير الخلفاء لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي صاحب كتاب المنصوري في الطب وغيره .

فأمّا عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري فممَّن كثرت كتبه واتَّسع تصنيفه ، ككتابه المترجم بكتاب المعارف وغيره من مصنَّفاته .

وأمَّا تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري الزاهي على المؤلفات ، والزائد على الكتب المصنَّفات ، فقد جمع أنواع الأخبار ، وحوى فنون الآثار ، واشتمل على صنوف العلموهو كتاب تكثر فائدته ، وتنفع عائدته ، وكيف لا يكون كذلك ؟ ومؤلفه فقيه عصره ، وناسك دهره إليه انتهت علوم فقهاء الأمصار ، وحملة السنن والآثار .

وكذلك تاريخ أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي النحوي الملقَّب بنفطويه فمحشو من ملاحة كتب الخاصة ، مملوء من فوائد السادة ، وكان أحسن أهل عصره تأليفاً ، وأملحهم تصنيفاً .

وكذلك سلك محمد بن يحيى الصولي في كتابه المترجم بكتاب الأوراق في أخبار الخلفاء من بني العباس وبني أمية ، وشعرائهم ووزرائهم ، فإنَّه ذكر غرائب لم تقع لغيره ، وأشياء تفرَّد بها لأنَّه شاهدها بنفسه وكان محظوظاً من العلم ، ممدوداً من المعرفة مرزوقاً من التصنيف وحسن التأليف .

وكذلك كتاب الوزراء وأخبارهم لأبي الحسن علي بن الحسن المعروف بابن الماشطة بلغ في تصنيفه إلى آخر أيّام الراضي بالله .

وكذلك أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب ، فإنَّه كان حسن التأليف ، بارع التصنيف موجزاً للألفاظ ، مقرِّباً للمعاني ، وإذا أردت علم ذلك فانظر في كتابه في الأخبار المعروف بكتاب (زهر الرَّبيع) ، وأشرف على كتابه المترجم بكتاب (الخراج) فإنَّك تشاهد بهما حقيقة ما قد ذكرناوصدق ما وصفنا .

وما صنعه أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه في كتابه في الأخبار الذي يعارض فيه كتاب (الروضة) للمبرد ولقبه بالباهر .

وكتاب إبراهيم ابن ماهويه الفارصي الذي عارض فيه المبرَّد في كتابه الملقب بـ (الكامل) .

وكتاب إبراهيم بن موسى الواسطي الكتاب في أخبار الوزراء الذي عارض فيه كتاب محمد بن داود بن الجراح في الوزراء .

وكتاب علي بن الفتح الكاتب المعروف بـ (المطوق) في أخبار عدة من وزراء المقتدر بالله .

وكتاب (زهرة العيون وجلاء القلوب) تأليف المصري .

وكتاب (التاريخ) تأليف عبد الرحمن بن عبد الرازق المعروف بالجوزجاني السعدي .

وكتاب (التاريخ وأخبار الموصل) تأليف أبي ذكرة الموصلي .

وكتاب (التاريخ) تأليف أحمد بن يعقوب المصري في أخبار العباسيين وغيرهم .

وكتاب (التاريخ في أخبار الخلفاء من بني العباس) وغيرهم لعبد الله بن الحسين بن سعد الكاتب .

وكتاب محمد بن مزيد بن أبي الأزهر في التاريخ وغيره ، وكتابه المترجم بكتاب (الهرج والأحداث) .

قال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي : ولم نذكر من كتب التواريخ والأخبار والسير والآثار إلاَّ ما اشتهر مصنِّفوها ، وعُرِفَ مؤلِّفوها ولم نتعرَّض لذكر كتب تورايخ أصحاب الأحاديث في معرفة أسماء الرِّجال وأعصارهم وطبقاتهم إذ كان ذلك كلُّه أكثر من أن نأتي على ذكره في هذا الكتاب ، إذ كنَّا قد أتينا على جميع تسمية أهل الأعصار من حملة الآثار ، ونقلة السير والأخبار ، وطبقات أهل العلم من عصر الصحابة ، ثمَّ من تلاهم من التابعين ، وأهل كلِّ عصر على اختلاف أنواعهم ، وتنازعهم في آرائهم : من فقهاء الأمصار وغيرهم من أهل الآراء والنحل والمذاهب والجدل ، إلى سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة ، في كتابنا المترجم بكتاب (أخبار الزمان) ، وفي الكتاب (الأوسط) .

رواياته عند ابن أبي الحديد :

ج7/131 عن الهيثم بن عدي خبر نبش قبور بني أُميّة .

ج8/128ذكره قول المسعودي في صاحب الزنج أنَّ أفعاله لا تدلُّ على كونه طالبياً149 ، 211خبر صاحب الزنج الخارجي ، 219 أصل التتار .

ج20/143 -148 أخبار ابن الزبير مع بني هاشم ، منها رواية واحدة عن علي بن سليمان بن عبد الله النوفلي من كتابه الأخبار عن ابن عائشة عن أبيه عن حماد بن سلمة قال : كان عروة بن الزبير يُعذِر أخاه إذا جرى ذكر هاشم ، وحصره إيّاهم في الشعب وجمعه لهم الحطب لتحريقهم ويقول : إنَّما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته إذا هم أبوا البيعة  (6) .

ونحن نذكر طرف من كتابه مما يرتبط بتاريخ الائمة عليهم السلام :

أخبار الأئمة عليهم السلام من ذرية الحسين عليه السلام في مروج الذهب :

علي بن الحسين : (السجّاد) :

قال المسعودي : وبايع الناس (في المدينة) على أنَّهم عبيد ليزيد ، ومن أبى ذلك أمرَّه مسرف على السيف غير علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب السجاد ، وعلي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، وفي وقعة الحرَّة يقول محمد بن أسلم :

فإن تقتلونا يوم حرَّة واقم       فنحن على الإسلام أوَّل من قتل

ونحن تركناكم ببدر أذِّلة       وأبنّا بأسياف لنا منكم تفل

ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجّاد وقد لاذ بالقبر وهو يدعو ، فأُِتىَ به إلى مسرف وهو مغتاظ عليه ، فتبرَّأ منه ومن آبائه ، فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد ، وقام له ، وأقعده إلى جانبه ، وقال له : سلني حوائجك ، فلم يسأله في أحد ممَّن قُدِّم إلى السيف إلاَّ شفَّعه فيه ، ثمَّ انصرف عنه .

فقيل لعلي : رأيناك تحرِّك شفتيك ، فما الذي قلت ؟ قال قلت : اللهم ربَّ السموات السبع وما أظللنَ ، والأرضين السبع وما أقللنَ ، ربَّ العرش العظيم ، ربَّ محمد وآله الطاهرين أعوذ بك من شرِّه ، وأدرأ بك في نحره ، أسألك أن تؤتيني خبره ، وتكفيني شرَّه ، وقيل لمسلم : رأيناك تسبُّ هذا الغلام وسلفه ، فلمّا أتي به إليك رفعت منـزلته ، فقال : ما كان ذلك لرأي منِّي ، لقد ملئ قلبي منه رعباً  (7) .

وفي سنة خمس وتسعين قبض علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في ملك الوليد ، ودفن بالمدينة في بقيع الغرقد مع عمِّه الحسن بن علي ، وهو ابن سبع وخمسين سنة ، ويقال : أنَّه قبض سنة أربع وتسعين .

وكلُّ عقب الحسين من علي بن الحسين هذا وهو السجّاد على ما ذكرنا ، وذو الثفنات وزين العابدين  (8) .

محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام (الباقر) :

قال المسعودي : وفي أيّام الوليد بن يزيد كانت وفاة أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام  ، وقد تنوزع في ذلك من الناس من رأى أنَّ وفاته كانت في أيّام هشام وذلك سنة سبع عشرة ومائة ومن الناس من رأى أنَّه مات في أيّام يزيد بن عبد الملك وهو ابن سبع وخمسين سنة بالمدينة ودفن بالبقيع مع أبيه علي بن الحسين وغيره من سلفه عليه السلام ممَّا سنورد ذكرهم فيما يرد من هذا الكتاب . ج3/219 .

وقال المسعودي عند ذكر شهادة زيد سنة إحدى وعشرين ومائة : وقد كان زيد شاور أخاه أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين فأشار عليه بأن لا يركن إلى أهل الكوفة إذ كانوا أهل غدر ومكر وقال له : بها قتل جدك علي وبها طعن عمُّك الحسن وبها قتل أبوك الحسين وفيها وفي أعمالها شتمنا أهل البيت وأخبره بما عنده من العلم في مدَّة ملك ابن مروان وما يتعقَّبهم من الدولة العباسية ، فأبى إلاَّ ما عزم عليه من المطالبة من الحقِّ فقال له : إنِّي أخاف عليك يا أخي أن تكون غداً المصلوب بكناسة الكوفة وودَّعه أبو جعفر وأعلمه أنَّهما لا يلتقيان  (9) .

أقول : روى مضمون هذه المحاورة الطبري في تاريخه عن أبي عبيدة معمر بن المثنى وعبيد بن هناد ، قال أبو عبيدة : إنَّ زيداً أقام بالكوفة أربعة أشهر أو خمسة ويوسف يأمره بالخروج ويكتب إلى عامله على الكوفة وهو يومئذ بالحيرة يأمره بإزعاج زيد وزيد يذكر أنَّه ينازع بعض آل طلحة بن عبيد الله في مال بينه وبينهم بالمدينة فيكتب العامل بذلك إلى يوسف ، فيقرَّه أيّاماً ثمَّ يبلغه أنَّ الشيعة تختلف إليه فيكتب إليه أن أخرجه ولا تؤخِّره وإن ادّعى أنَّه ينازع ، فليجر جرّاً وليوكِّل من يقوم مقامه فيما يطالب به وقد بايعه جماعة منهم سلمة بن كهيل ونصر بن خزيمة العبسي ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وحجية بن الأجلح الكندي وناس من وجوه أهل الكوفة .

فلمَّا رأى ذلك داود بن علي قال له : يا ابن عمّ لا يغرنَّك هؤلاء من نفسك ففي أهل بيتك لك عبرة وفي خذلان هؤلاء إيّاهم .

فقال : يا داود إنَّ بني أمية قد عتوا وقست قلوبهم ، فلم يزل به داود حتّى عزم على الشخوص فشخصنا حتّى بلغا القادسية .

و ذكر عن أبي عبيدة أنَّه قال : اتَّبعوه إلى الثعلبية وقالوا له : نحن أربعون ألفاً إن رجعت إلى الكوفة لم يتخلف عنك أحد وأعطوه المواثيق والأيمان المغلظة فجعل يقول : إنِّي أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدي . فيحلفون له .

فيقول داود بن علي : يا بن عمّ إنَّ هؤلاء يغرّونك من نفسك أليس قد خذلوا من كان أعزُّ عليهم منك جدُّك علي بن أبي طالب حتّى قتل ؟ ! والحسن من بعده بايعوه ثمَّ وثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه وانتهبوا فسطاطه وجرحوه ؟ ! أوليس قد أخرجوا جدك الحسين وحلفوا له بأوكد الأيمان ثمَّ خذلوه وأسلموه ؟ ! ثمَّ لم يرضوا بذلك حتّى قتلوه فلا تفعل ولا ترجع معهم .

فقالوا : إنَّ هذا لا يريد أن تظهر أنت ويزعم أنَّ أهل بيته أحقُّ بهذا الأمر منكم .

فقال زيدٌ لداود : إنَّ عليّاً كان يقاتله معاوية بدهائه ونكرائه بأهل الشام وإنَّ الحسين قاتله يزيد بن معاوية والأمر عليهم مقبل .

فقال له داود : إنِّي لخائف إن رجعت معهم ، ألا يكون أحد أشدُّ عليك منهم وأنت أعلم . ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة .

وقال عبيد بن جناد عن عطاء بن مسلم الخفاف قال : كتب هشام إلى يوسف أن أشخص زيداً إلى بلده فإنَّه لا يقيم ببلد غيره فيدعو أهله إلاَّ أجابوه ، فأشخصه فلمّا كان بالثعلبية أو القادسية لحقه المشائيم يعني (أهل الكوفة) ، فردّوه وبايعوه ، فأتاه سلمة بن كهيل فاستأذن عليه ، فأذن له فذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وحقَّه فأحسن .

ثمَّ تكلَّم زيد فأحسن ، فقال له سلمة : اجعل لي الأمان ، فقال : سبحان الله مثلك يسأل مثلي الأمان ؟ ! وإنَّما أراد سلمة أن يسمع ذلك أصحابه ، ثمَّ قال : لك الأمان ، فقال : نشدتك بالله كم بايعك ؟ قال : أربعون ألفاً ، قال : فكم بايع جدك ؟ قال : ثمانون ألفاً ، قال : فكم حصل معه ؟ قال : ثلثمائة قال : نشدتك الله أنت خير أم جدُّك ؟ قال : بل جدي ، قال : أفقرنُك الذي خرجت فيهم خير أم القرن الذي خرج فيهم جدك ؟ قال : بل القرن الذي خرج فيهم جدي ، قال : أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدك ؟ ! قال : قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم .

قال : أفتأذن لي أن أخرج من البلد ، قال : لِمَ ؟ قال : لا آمن أن يحدث في أمرك حدثٌ فلا أملك نفسي ، قال : قد أذنت لك ، فخرج إلى اليمامة وخرج زيد فقتل وصلب .

فكتب هشام إلى يوسف يلومه على تركه سلمة بن كهيل يخرج من الكوفة ويقول : مقامه كان خيراً من كذا وكذا من الخيل تكون معك .

و ذكر عمر عن أبي إسحاق شيخ من أهل أصبهان حدَّثه أن عبد الله بن حسن كتب إلى زيد بن علي : يا بن عمّ إنَّ أهل الكوفة نفخ العلانية خور السريرة هوج في الرخاء جزع في اللقاء ، تقدَّمهم ألسنتهم ولا تشايعهم قلوبهم ، لا يبيتون بعده في الأحداث ولا ينوءون بدولة مرجوَّة ، ولقد تواترت إلىَّ كتبهم بدعوتهم ، فصممت عن ندائهم وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم يأساً منهم وإطراحاً لهم ، وما لهم مثل إلاَّ ما قال علي بن أبي طالب : إن أهملتم خضتم ، وإن حوربتم خرتم ، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم  (10) .

وورد أيضاً مضمون هذه المحاورة في خطبة المنصور بعد أخذه عبد الله بن الحسن وهذا نصِّها :

خطبة المنصور بعد اخذ عبد الله بن الحسن :

قال المسعودي : ولمَّا أخذ المنصور عبد الله بن الحسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته صعد المنبر بالهاشمية ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على محمد صلى الله عليه وآله ، ثمَّ قال : يا أهل خراسان ، أنتم شيعتنا وأنصارنا ، وأهل دعوتنا ، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا خيراً منّا .

إنَّ ولد أبي طالب تركناهم والذي لا إله إلاَّ هو والخلافة فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير .

فقام فيها علي بن أبي طالب عليه السلام فما أفلح ، وحكَّم الحكمين ، فاختلفت عليه الأمّة وافترقت الكلمة ، ثمَّ وثب عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه .

ثمَّ قام بعدهُ الحسن بن عليعليه السلام ، فوالله ما كان برجل ، عرضت عليه الأموال فقبلها ، ودسَّ إليه معاوية إنِّي أجعلك ولي عهدي ، فخلع نفسه وانسلخ له ممَّا كان فيه ، وسلَّمه إليه وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخرى ، فلم يزل كذلك حتّى مات على فراشه .

ثمَّ قام من بعده الحسين بن عليعليه السلام ، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنِّفاق والإغراق في الفتن ، أهل هذه المِدرة السوء ، / وأشار إلى الكوفة / فوالله ما هي لي بحرب فأُحاربها ، ولا هي لي بسلم فأُسالمها ، فرَّق الله بيني وبينها / فخذلوه وأبرؤوا أنفسهم منه ، فأسلموه حتّى قتل .

ثمَّ قام من بعده زيد بن علي ، فخدعه أهل الكوفة وغرّوه ، فلمَّا أظهروه وأخرجوه أسلموه ، وقد كان أبي محمد بن علي ناشده الله في الخروج وقال له : لا تقبل أقاويل أهل الكوفة فإنّا نجد في علمنا أنَّ بعض أهل بيتنا يصلب بالكناسة ، وأخشى أن تكون ذلك المصلوب ، وناشده الله بذلك عمّي داود وحذَّره رحمه الله غدر أهل الكوفة ، فلم يقبل ، وتمَّ على خروجه ، فقتل وصلب بالكناسة .

ثمَّ وثب بنو أميّة علينا فابتزّونا شرفنا ، وأذهبوا عزّنا ، والله ما كان لهم عندنا تِرة يطلبونها ، وما كان ذلك كلُّه إلاَّ فيهم وبسبب خروجهم ، فنفونا عن البلاد ، فصرنا مرَّة بالطائفومرَّة بالشام ، ومرَّة بالسراة ، حتّى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصاراً فأحيا الله شرفنا وعزَّنا بكم ، يا أهل خراسان ودفع بحقِّكم أهل الباطل وأظهر لنا حقَّنا ، وأصار إلينا أمرنا وميراثنا من نبينا صلى الله عليه وآله فقرَّ الحقُّ في قراره ... ، وإنِّي والله يا أهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر من جهالة ولا عن ظِنَّة ، ولقد كنت يبلغني عنهم بعض السقم ولقد كنت سمَّيت لهم رجالاً فقلت : قم يا فلان فخذ معك من المال كذا وكذا وحذوت لهم مثالاً يعملون عليه ، فخرجوا حتّى أتوا المدينة ، فلقوهم فدسّوا ذلك المال ، فوالله ما بقي منهم شيخ ولا شاب ولا صغير ولا كبير إلاَّ بايعهم لي ، فاستحللت به دماءهم وحلَّت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي ، وطلبهم الفتنة والتماسهم الخروج علىَّ ثم قرأ على المنبر (وحيل بينهم وبين ما يشتهون ... )  (11) .

جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام (الصادق) :

قال المسعودي : ولعشر سنين خلت من خلافة المنصور توفي أبو عبد الله جعفر بن محمد بن علي سنة ثمان وأربعين ومائة ودفن بالبقيع مع أبيه وجدِّه وله خمس وستون سنة وقيل : إنَّه سُمَّ ، وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب : (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مبيد الأُمم ومحيي الرمم هذا قبر فاطمة بنت رسول الله سيدة نساء العالمين وقبر الحسن بن علي وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد عليهم السلام (12) .

موسى بن جعفر عليهما السلام (الكاظم) :

قال المسعودي : وذكر عبد الله بن مالك الخزاعي وكان على دار الرشيد وشرطته قال : أتاني رسول الرشيد في وقت ما جاءني فيه قط ، فانتزعني من موضعي ومنعني من تغيير ثيابي ، فراعني ذلك منه فلمَّا صرت إلى الدار سبقني الخادم ، فعرف الرشيد خبري ، فأذن لي في الدخول عليه ، فدخلت ، فوجدته قاعداً على فراشه ، فسلَّمت فسكت ساعة فطار عقلي وتضاعف الجزع عليَّ ، ثمَّ قال لي : يا عبد الله ، أتدري لم طلبتك في هذا الوقت ؟ قلت : لا والله يا أمير المؤمنين ، قال : إنِّي رأيت الساعة في منامي كأنَّ حبشياً قد أتاني ومعه حربة ، فقال لي : إن لم تخلِّ عن موسى بن جعفر الساعة وإلاَّ نحرتك بهذه الحربة ، فاذهب فخلِّ عنه فقلت : يا أمير المؤمنين ، أطلق موسى بن جعفر ؟ ! ثلاثاً ، قال : نعم ، امض الساعة حتّى تطلق موسى بن جعفر وأعطه ثلاثين ألف درهم ، وقل له : إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحبُّ وإلا أخرجه ، فلمّا رآني موسى وثب إلىَّ قادماً وظنَّ أنِّي قد أمرت فيه بمكروه فقلت : لا تخف ، وقد أمرني أمير المؤمنين بإطلاقك ، وأن أدفع إليك ثلاثين ألف درهم ، وهو يقول لك : إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحبُّ ، وإن أحببت الإنصراف إلى المدينة فالأمر في ذلك مطلق إليك . وأعطيته الثلاثين ألف درهم ، وخلَّيت سبيله ، وقلت : لقد رأيت من أمرك عجباً ، قال : فإنِّي أخبرك : بينما أنا نائم إذ أتاني النبي صلى الله عليه وآله فقال : يا موسى ، حُبستَ مظلوماً ، فقل هذه الكلمات فإنَّك لا تبيت هذه الليلة في الحبس ، فقلت : بأبي وأمّي ما أقول ؟ فقال : قل : (يا سامع كلَّ صوت ، ويا سابق الفوت ، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت ، أسألك بأسمائك الحسنى وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين ، يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته ، ياذا المعروف الذي لا ينقلع أبداً ، ولا يحصى عدداً ، فرِّج عنِّي) ، فكان ماترى  (13) .

وقال المسعودي : وقبض موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ببغداد مسموماً ، لخمس عشرة سنة خلت من ملك الرشيد ، سنة ست وثمانين ومائة ، وهو ابن أربع وخمسين سنة ، وقد ذكرنا في رسالة بيان أسماء الأئمة القطعية من الشيعة : أسماءهم ، وأسماء أمهاتهم ومواضع قبورهم ، ومقادير أعمارهم ، وكم عاش كلُّ واحد منهم مع أبيه ، ومن أجداده عليهم السلام  (14) .

علي بن موسى الرضا عليهما السلام :

قال المسعودي : وصل إلى المأمون أبو الحسن علي بن موسى الرضا ، وهو بمدينة مرو ، فأنـزله المأمون أحسن إنـزال ، وأمر المأمون بجميع خواص الأولياء ، وأخبرهم أنَّه نظر في ولد العباس وولد علي  ، فلم يجد في وقته أحداً أفضل ولا أحقُّ بالأمر من علي بن موسى الرضا ، فبايع له بولاية العهد ، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم ، وزوَّج محمد بن علي بن موسى الرضا بابنته أُمِّ الفضل ، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام وأظهر بدلاً من ذلك الخضرة في اللباس والأعلام وغير ذلك ، ونُمِّي ذلك إلى مَنْ بالعراق من ولد العباس فأعظموه إذ علموا أنَّ في ذلك خروج الأمر عنهم ، وحجَّ بالناس إبراهيم بن موسى بن جعفر أخو الرضا بأمر المأمون ، واجتمع مَنْ بمدينة السلام من ولد العباس ومواليهم وشيعتهم على خلع المأمون ومبايعة إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة ، فبويع له يوم الخميس لخمس ليال خلون من المحرم سنة اثنتين ومائتين ، وقيل إنَّ ذلك في سنة ثلاث ومائتين .

وقُبِض علي بن موسى الرضا بطوس من عنب أكله وأكثر منه  (15) ، وقيل : إنَّه كان مسموماً وذلك في صفر سنة ثلاث ومائتين ، وصلّى عليه المأمون ، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة ، وقيل : سبع وأربعين سنة وستة أشهر . وكان مولده بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة للهجرة ، وكان المأمون زوَّج ابنته أُمَّ حبيبة لعلي بن موسى الرضا ، فكانت إحدى الأُختين تحت محمد بن علي بن موسى ، والأخرى تحت أبيه علي بن موسى  (16) .

محمد بن علي بن موسى بن جعفر عليهم السلام (الجواد) :

قال المسعودي : وفي هذه السنة وهي سنة تسع عشرة ومائتين قبض محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وذلك لخمس خلون من ذي الحجة ، ودفن ببغداد في الجانب الغربي من مقابر قريش مع جدِّه موسى بن جعفروصلّى عليه الواثق ، وقبض وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وقبض أبوه علي بن موسى الرضا ومحمد ابن سبع سنين وثمانية أشهر ، وقيل غير ذلك وقيل : إنَّ أُمّ الفضل بنت المأمون لمَّا قدمت معه من المدينة إلى المعتصم سمَّته ، وإنَّما ذكرنا من أمره ما وصفنا لأنَّ أهل الإمامة اختلفوا في مقدار سنِّه عند وفاة أبيه ، وقد أتينا على ما قيل في ذلك في رسالة (البيان في أسماء الأئمة) وما قالت في ذلك الشيعة من القطعية .

علي بن محمد بن علي بن موسى عليهم السلام (الهادي) :

قال المسعودي : وحدَّث أبو عبد الله محمد بن عرفة النحوي قال : حدَّثنا محمد بن يزيد المبرَّد قال : قال المتوكِّل لأبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام  : ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبد المطلب ؟ قال : وما يقول ولد أبي يا أمير المؤمنين في رجل افترض الله طاعة بنيه على خلقه وافترض طاعته على بنيه فأمر له بمائة ألف درهم ، وإنَّما أراد أبو الحسن طاعة الله على بنيه فعرَّض .

وقد كان سُعي بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكِّل ، وقيل له : إنَّ في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته ، فوجَّه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منـزله على غفلة ممَّن في داره ، فوجده في بيت وحده مغلق عليه وعليه مدرعة من شعر ، ولا بساط في البيت إلاَّ الرمل والحصى ، وعلى رأسه ملحفة من الصوف متوجِّهاً إلى ربِّه يترنَّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ، فأخذ على ما وجد عليه وحمل إلى المتوكِّل في جوف الليل ، فمثل بين يديه والمتوكِّل يشرب وفي يده كأس ، فلمَّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه ولم يكن في منزله شيء ممَّا قيل فيه ، ولا حالة يتعلل عليه بها ، فناوله المتوكِّل الكأس الذي في يديه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما خامر لحمي ودمي قط ، فأعفني منه ، فعافاه ، وقال : أنشدني شعراً أستحسنه ، فقال : إنِّي لقليل الرواية للأشعار ، فقال : لا بدَّ أن تنشدني فأنشده :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم       غلب الرجال فما أغنتهم القلل

واستنزلوا بعد عزِّ معاقلهم       فأودعوا حفراً يا بئس مانزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما قبروا       أين الأسرَّة والتيجان والحلل ؟

أين الوجوه التي كانت منعَّمة       من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم       تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا       فأصبحوا بعد طول الأكل قدأكلوا

وطالما عمَّروا دوراً لتحصنهم       ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

وطالما كنـزوا الأموال وادَّخروا       فخلَّفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت منازلهم قفراً معطَّلة       وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

قال : فأشفق كلُّ من حضر على علي ، وظنَّ أنَّ بادرة تبدر منه إليه ، قال : والله لقد بكى المتوكِّل بكاء طويلاً حتّى بلَّت دموعه لحيته ، وبكى من حضره ، ثمَّ أمر برفع الشراب ، ثمَّ قال له : يا أبا الحسن ، أعليك دين ؟ قال : نعم أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه ، وردَّه إلى منـزله من ساعته مكرَّماً  (17) .

قال المسعودي : حدَّثنا ابن الزهر ، قال : حدَّثني القاسم بن عباد قال : حدَّثني يحيى بن هرثمة ، قال : وجَّهني المتوكِّل إلى المدينة لإشخاص علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر لشيء بلغه عنه ، فلمَّا صرت إليها ضجَّ أهلها وعجّوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله فجعلت أُسكِّنهم وأحلف لهم إنَّي لم أؤمر فيه بمكروه ، وفتَّشت بيته ، فلم أجد فيه إلاَّ مصحفاً ودعاءً وما أشبه ذلك ، فأشخصته وتولَّيت خدمته وأحسنت عشرته ، فبينا أنا نائم يوماً من الأيّام ، والسماء صاحية ، والشمس طالعة إذ ركب وعليه ممطر ، وقد عقد ذنب دابَّته فعجبت من فعله ، فلم يكن بعد ذلك إلاَّ هنيهة حتّى جاءت سحابة فأرخت عزاليهاونالنا من المطر أمر عظيم جداً ، فالتفت إلىَّ ، وقال : أنا أعلم أنَّك أنكرت ما رأيت ، وتوهَّمت أنِّي علمت من الأمر ما لا تعلمه ، وليس ذلك كما ظننت ، ولكن نشأت بالبادية ، فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر فلمَّا أصبحت هبَّت ريح لا تخلف وشممت منها رائحة المطر ، فتأهَّبت لذلك ، فلمَّا قدمت مدينة السلام بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان على بغداد فقال لي : يا يحيى ، إنَّ هذا الرجل قد ولده رسول الله صلى الله عليه وآله ، والمتوكِّل من تعلم ، وإن حرَّضته على قتله كان رسول الله صلى الله عليه وآله خصمك ، فقلت : والله ما وقفت له إلاَّ على كلِّ أمر جميل ، فصرت إلى سامرا ، فبدأت بوصيف التركي وكنت من أصحابه ، فقال : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل شعرة لا يكون المطالب بها غيري ، فعجبت من هولهما ، وعرَّفت المتوكِّل ما وقفت عليه ، وما سمعته من الثناء عليه ، فأحسن جائزته ، وأظهر برَّه وتكرمته .

حدَّثني أبو دعامة ، قال : أتيت علي بن محمد بن علي بن موسى عائداً في علَّته التي كانت وفاته منها في هذه السنة ، فلمّا هممت بالانصراف قال لي : يا أبا دعامة قد وجب حقُّك أفلا أُحدِّثك بحديث تسرُّ به ؟ قال : فقلت له : ما أحوجني إلى ذلك يا ابن رسول الله قال : حدَّثني أبي محمد بن علي ، قال : حدَّثني أبي علي بن موسى ، قال : حدَّثني أبي محمد بن علي ، قال : حدَّثني أبي علي بن الحسين ، قال : حدَّثني أبي الحسين بن علي ، قال : حدَّثني أبي علي بن أبي طالب ! قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (أكتب يا علي) قال قال قلت : وما ؟ قال لي : (أكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، الإيمان ما وقرته القلوب ، وصدَّقته الأعمالوالإسلام ما جرى به اللسان ، وحلَّت به المناكحة) قال أبو دعامة : فقلت : يا ابن رسول الله ، ما أدري والله أيَّهما أحسن : الحديث أم الإسناد ؟ فقال : إنَّها لصحيفة بخطِّ علي بن أبي طالب بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله نتوارثها صاغراً عن كابر .

قال المسعودي : وقد ذكرنا خبر علي بن محمد بن موسى عليه السلام مع زينب الكذَّابة بحضرة المتوكِّل ، ونزوله عليه السلام إلى بركة السباع ، وتذلِّلها له  (18) ورجوع زينب عمّا ادَّعته من أنَّها ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وأنَّ الله تعالى أطال عمرها إلى ذلك الوقت ، في كتابنا : (أخبار الزمان) وقيل : أنَّه عليه السلام مات مسموماً ، !  (19) .

صنيع المنتصر بآل أبي طالب :

قال المسعودي : وكان آل أبي طالب قبل خلافة المنتصر في محنة عظيمة وخوف على دمائهم ، قد مُنعوا زيارة قبر الحسين والغري من أرض الكوفة ، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد ، وكان الأمر بذلك من المتوكِّل سنة ست وثلاثين ومائتين وفيها أمر المعروف باذيريج بالسير إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وهدمه ومحو أرضه وإزالة أثره ، وأن يعاقب من وجد به ، فبذل الرغائب لمن تقدم على هذا القبر ، فكلٌّ خشي العقوبة ، وأحجم ، فتناول الباذيريج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين ، فحينئذ أقدم الفعلة فيه ... ولم تزل الأُمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر سنة 247هجرية ، فأمن الناس ، وتقدَّم بالكفِّ عن آل أبي طالب ، وترك البحث عن أخبارهم ، وأن لا يمنع أحد زيارة الحيرة لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه ، ولا قبر غيره من آل أبي طالب ، وأمر بردِّ فدك إلى ولد الحسن والحسين ، وأطلق أوقاف آل أبي طالب وترك التعرُّض لشيعتهم ودفع الأذي عنهم ، وفي ذلك يقول البحتري من أبيات له :

وإنَّ عليّاً لأولى بكم       وأزكى يداً عندكم من عمر

وكلٌّ له فضله ، والحجول       يوم التراهن دون الغرر

وفي ذلك يقول يزيد بن محمد المهلبي وكان من شيعة آل أبي طالب وما كان امتحن به الشيعة في ذلك الوقت واغريت بهم العامة :

ولقد بررت الطالبية بعدما       ذمّوا زماناً بعدها وزمانا

ورددت ألفة هاشم ، فرأيتهم       بعد العداوة بينهم إخوانا

آنست ليلهم وجدت عليهم       حتى نسوا الأحقاد والأضغانا

لو يعلم الأسلاف كيف بررتهم       لرأوك أثقل من بها ميزانا (20)

ج4/51-52

الحسن بن علي وولده المهدي عليهم السلام :

قال المسعودي : وفي سنة ستين ومائتبن قبض أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام في خلافة المعتمد وهو أبن تسع وعشرين سنة ، وهو أبو المهدي المنتظر والإمام الثاني عشر عند القطعية من الإمامية وهم جمهور الشيعة ، وقد تنازع هؤلاء في المنتظر من آل النبي صلى الله عليه وآله بعد وفاة الحسن بن علي وافترقوا على عشرين فرقة ، وقد ذكرنا حجاج كل طائفة منهم لما اجتبته لنفسها واختارته لمذهبها في كتابنا المترجم بـ (سر الحياة) وفي كتاب (المقالات في أصول الديانات) وما ذهبوا اليه من الغيبة وغير ذلك  (21) .

______________________

(1) المسعودي : مروج الذهب 2/185 .

(2) ترجمته في الفهرست : 219 - 220 ، ياقوت الحموي : معجم الأُدباء : 13 / 90 - 94 ، العبر : 2 / 269 ، فوات الوفيات : 2 / 94 ، طبقات الشافعية : 3 / 456 - 457 ، ابن حجر : لسان الميزان : 4 / 224 - 225 ، النجوم الزاهرة : 3 / 315شذرات الذهب : 2 / 371 .

(3) أنظر ابن النديم : الفهرست 219 - 220 .

(4) الذهبي : سير أعلام النبلاء م 15 / 569 .

(5) توفي سنة (114 هـ) وله كتاب الملوك المتوَّجة من حمير وأخبارهم وكتاب المبتدأ .

(6) المسعودي : مروج الذهب 3/77 .

(7) المسعودي : مروج الذهب ج3/70-71 .

(8) المسعودي : مروج الذهب ج3/160 .

(9) المسعودي : مروج الذهب ج3/206 .

(10) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري ج : 7 / 168-169 .

(11) المسعودي : مروج الذهب ج3/301 وقد بحثنا فى محله من بحوثنا في السيرة ان الاخبار التي تصف أهل الكوفة بالغدر والخذلان وتوصلنا الى انها مما وضعه الاخباريون الذي سايروا العباسيين في سياستهم الاعلامية لتطويق اصحاب علي والحسن والحسين وما قاموا به من نشر الاسلام برواية اهل البيت عليهم السلام .

(12) المسعودي : مروج الذهب ح3/285 .

(13) المسعودي : مروج الذهب ج3/346-347 .

(14) أقول : يفهم من سياق كلامه ان مراده من الأئمة القطعية هم الأئمة الإثني عشر الذين قطع الشيعة عليهم الإمامة المعصومة . ويؤكد ذلك ما ذكره في التنبيه والإشراف ص 199 قال : وأصحاب النسق منهم (أي من أهل الإمامة) القائلون بأن الله عزوجل لا يخلي كل عصر من إمام قائم لله بحق ظاهر أم باطن ولم يقطعوا على عدد محصور) .
قال المسعودي : وقد أتينا على سائر أقوالهم (أي أهل الفرق) في أصولهم وفروعهم وأقاويلهم وأقاويل غيرهم من فرق الأمة من الخوارج والمرجئة والرافضة والزيدية والحشوية وغيرهم في كتابنا (المقالات في أصول الديانات) وأفردنا بذلك كتابنا المترجم بكتاب (الإبانة) اجتبيناه لأنفسنا ، وذكرنا فيه الفرق بين المعتزلة وأهل الإمامة ، وما بان به كلُّ فريق منهم عن الآخر ، إذ كانت المعتزلة وغيرها من الطوائف تذهب إلى أنَّ الإمامة اختيار من الأمَّة ، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم ينصَّ على رجل بعينه ولا رسوله (صلى الله عليه وآله) ... والذي ذهب إلى أنَّ الإمامة قد تجوز في قريش وغيرهم من الناس هو المعتزلة بأسرها ، وجماعة من الزيدية مثل الحسن بن صالح بن حي ، ومن قال بقوله ، ويوافق على هذا القول جميع الخوارج من الأباضية وغيرهم ، إلاَّ النجدات من فرق الخوارج ، فزعموا أنَّ الإمامة غير واجب نصبها ، ووافقهم على هذا القول أناس من المعتزلة ممَّن تقدَّم وتأخَّر ، إلاَّ أنَّهم قالوا : إن عدلت الأمَّة ولم يكن فيها فاسق لم يحتج إلى إمام ...
ولما انفرد به أهل الإمامة من أنَّ الإمامة لا تكون إلاَّ نصّاً من الله ورسوله على عين الإمام واسمه واشتهاره كذلك ، وفي سائر الأعصار لا تخلو الناس من حجَّة لله فيهم ظاهراً أو باطناً ، على حسب استعماله التقية والخوف على نفسه ، واستدلُّوا بالنصِّ على الإمامة ، وبدلائل كثيرة من العقول وجوامع من النصوص في وجوبها ، وفي النصِّ عليهم ، وفي عصمتهم ، من ذلك قوله عز وجل مخبراً عن إبراهيم : (إنِّي جاعلك للناس إماما) ومسألة إبراهيم بقوله : (من ذريتي) وإجابة الله له بأنَّه (لا ينال عهدي الظالمين) . قالوا : ففيما تلونا دلائل على أنَّ الإمامة نصٌّ من الله ، ولو كان نصُّها إلى الناس ما كان لمسألة إبراهيم ربَّه وجه ، ولما كان الله قد أعلمه أنَّه اختاره ، وقوله : (لا ينال عهدي الظالمين) دلاّ على أنَّ عهده يناله من ليس بظالم . ووصف هؤلاء الإمام فقالوا : نعت الإمام في نفسه أن يكون معصوماً من الذنوب ، وأن يكون أعلم الخليقة ... وأنَّ ذلك كلَّه وجد في علي بن أبي طالب وولده عليهم السلام من السبق إلى الإيمان ، والهجرة ، والقرابةوالحكم بالعدل ، والجهاد في سبيل الله ، والورع ، والزهد ، وأنَّ الله قد أخبر عن بواطنهم وموافقتها لظواهرهم بقوله عزَّ وجلَّ ، ووصفه لهم فيما صنعوه من الإطعام للمسكين واليتيم والأسير ، وأنَّ ذلك لوجهه تعالى خالصاً ، لا أنَّهم أبدوه بألسنتهم فقط وأخبر عن أمرهم في المنقلب ، وحسن الموئل في المحشر ، ثمَّ إخباره عزَّ وجلَّ عمّا أذهب عنهم من الرجس وفعل بهم من التطهير ، وغير ذلك ممَّا أوردوه دلائل لما قالوه ، وأنَّ عليّاً نصَّ على ابنه الحسن ، ثمَّ الحسين والحسين على علي بن الحسين ، ، وكذلك من بعده إلى صاحب الوقت الثاني عشر ، على حسب ماذكرنا وسميّنا في غير هذا الموضع من هذا الكتابولأهل الإمامة من فرق الشيعة في هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة كلام كثير في الغيبة واستعمال التقية ، وما يذكرونه من أبواب الأئمة والأوصياء لا يسعنا إيراده في هذا الكتاب ، إذ كان كتاب خبر ، وإنمَّا تغلغل بنا الكلام إلى إيراد بعضاً من هذه المذاهب والآراء . المسعودي : مروج الذهب ج3/423-226 .

(15) أقول : هذه الرواية هي الرواية الرسمية للمؤرخين العباسيين سواء كانوا من المعتزلة او من غيرهم كالطبري في تاريخه .

(16) المسعودي : مروج الذهب ج3/441 .

(17) المسعودي : مروج الذهب ج4/12 .

(18) قال ابن حجر في لسان الميزان2/583 زينب الكذّابة قال المسعودي : إدَّعت في عهد المتوكِّل العباسي إنَّها بنت الحسين بن علي بن أبي طالب وإنَّها عمَّرت إلى ذلك الوقت في خبر مكذوب ادَّعته في حضرة المتوكِّل فعرضت على علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم فكذَّبها علي فيما ادَّعت فجرت له معها قصة ذكرها المسعودي في مروج الذهب ثمَّ وجدت قصتها في شرف المصطفى (صلى الله عليه وآله) لأبي سعيد النيسابوري قال : ذكر محمد بن عاصم التميمي المعروف بالخزنبل عن أحمد بن أبي طاهر عن علي بن يحيى المنجم قال : لمَّا ظهرت زينب الكذَّابة وزعمت أنَّها بنت فاطمة وعلي قال المتوكِّل لجلسائه بعد أن أُحضرت إليه كيف لنا أن نعلم صحة أمر هذه ؟ فقال له الفتح بن خاقان : أحضر ابن الرضا يخبرك حقيقة أمرها فحضر فرحَّب به وسأله فقال المحنة في ذلك قريبة إنَّ الله حرَّم لحم جميع ولد فاطمة على السباع فألقها للسباع فإن كانت صادقة لم تتعرَّض لها وإن كانت كاذبة أكلتها فعرض ذلك عليها فأكذبت نفسها فأُديرت على جمل في طرقات سرَّ من رأى ينادى عليها بأنَّها زينب الكذّابة وليس بينها وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) رحم ماسّة فلمّا كان بعد أيّام قال علي بن الجهمي يا أمير المؤمنين لو جُرِّب قوله في نفسه لعرفنا حقيقته فجرَّبه وألقاه في مكان فيه السباع مطلقة فلم تتعرَّض له فقال المتوكِّل : والله لئن ذكرتم هذا لأحد من الناس لأضربنَّ أعناقكم والله سبحانه وتعالى أعلم .

(19) المسعودي : مروج الذهب ج4/84-86 .

(20) المسعودي : مروج الذهب ج4 ص51 - 52 .

(21) المسعودي : مروج الذهب ج4/110 . قال البدري بحثنا مسألة التفرق في كتابنا شبهات وردود الحلقة 4.

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري